في الكون، وفي كل مجالاته، ظاهرٌ وباطن، مُجسد ومجرد، جلى وخفى، مبني ومعني، جوانى وبراني، مشهود وغيبي، عين وجن، منظور وغير منظور، مسموع وغير مسموع، مُتصور وغير متصور .. وهكذا ..
فالظاهر والمجسد والجلي والمبني والبراني والمشهود والعين (المُعَاين) والمنظور والمسموع والمُتصور، هو مايقع ضمن الحواس الخمس، البصر والسمع واللمس والنطق والشم، ثم ما يمكن ان يتصوره العقل ndash; حسب كيفياته ودرجاته وثقافاته، مما يصل اليه من حواسه الخمس، ثم ما يمكن ان يمتد اليه عقله من تخيل، غالبا ما يكون محكوما بما وصل اليه من حواسه المذكورة، او نتيجة لقدرته على التلاعب اللفظي والتداعب الكلامي، والختال بغير اصول، والجدال عن غير علم .
وللعين أكثر من معنى، لكن ما يهم في صدد الدراسة، هو الحاضر من كل شئ. أما الجن فهو ما خفى (عن الحواس)، فجن الليل أى اختفى الليل وقد استعمل اللفظ في آية (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا) بقلب المعني، وهى بلاغة في التعبير مثل آية (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) فحقيقة معناها ان على الذين لايطيقون الصيام أن يطعموا مسكيناً، ومثل (ولما رأى المجرمون النار ظنوا انهم مواقعوها) والمعني الحقيقي أن لفظ الظن يستعمل بمعني معكوس يعني اليقين، فيكون المقصود : ولما رأوا النار أيقنوا انهم مواقعوها. والجنين هو ما خفي في بطن أمه، والمجنون هو ما خفى منه العقل، والجنان من كل شئ هو جوفه (لسان العرب، المعجم الوسيط، المعجم العربي الاساسى
وكانت العرب تعتقد ان ما يغيب عن حواسهم الخمس هو من الجن، والجن واحده جنيّ، وهو خلاف الانس (المراجع السابقة)، وهئ لهم أن كل ما يجئ إلي الفرد، بما لا تصل اليه الناس، بحواسهم وعقولهم الحبيسة في هذه الحواس، يجئ من الجن، أى من غير إنس. وما يصل من عالم الجن والخفاء الى الشاعر او الكاهن او المتنبئ، يجيئه من جن تابع له، وأن العبقري من الناس له تابع من الجن، تصوروا انها (اي الجن) تعيش في وادى اسمه وادي عبقر . فلا يصل الغيب الى الناس (العاديين، وهم أكثر الناس) إلا عَبْر وسيط من الجن.
والملَك في اللغة العبرية يعني اىّ رسول (اىْ مرسال) مرسلا من واحد الى آخر. لكن اللفظ تغير مع اليهود الذين كانوا يقيمون شمال شبه جزيرة العرب وجنوب الاردن- والذن اتهمهم غيرهم بانهم حنفوا (اى مالوا) عن صحيح اليهودية الى ان يصبح (اللفظ) ملاكا او ملكا، وهو جسم لطيف نورانى، تخصص على رسل الله من غير البشر. ولما رأى الحنيفية أنهم لم يميلوا او ينحرفوا عن صحيح الدين، اعتزوا بوصف الحنيفية واعتبروا انه يفيد كونهم على الصواب في المعتقدات، ووصلوها الى ابراهيم (عليه السلام). والحنيفية هي العقيدة التى كان عليها بعض مشاهير العرب مثل ورقة ابن نوفل وقس ابن ساعدة وامية ابن الصلت وزيد ابن ثابت ابن نفيل . وعدّ البعض من الحنيفية عبد المطلب جد النبي محمد (صلعم)
وقبل ان يستقر لفظ ملك (او ملاك) على هذا المعني كانت الشعوب تسمي العباقرة والقوى التى ظنوا انها الوسائط بين الله والناس: أربابا، ومفردها quot;ربquot;، لكن بالمعني الذي يفيد السيد أو الصاحب، كما يقال حتى الآن رب الدار، ورب العمل. أو يُجمع اللفظ فيقال أرباب المعاشات أو أرباب الفنون وهكذا . وفي مصر القديمة مثلوا لكل قوة بتمثال كان رمزا لها وسموه ربا لهذه القوة، اما الله فكان يسمى رب الارباب أو الذي خلق كل شئ. وفي القرآن استُعمل لفظ الرب مرادفا للفظ الله (رب العالمين) (رب هذا البيت)، (ورب هذه البلدة) (مكة)، وذلك مع استعمال لفظ الله الذى هو تعريف عربي للفظ اله ويصير بالتعريف هو quot;اللهquot; .
متى استقر تعريف الالفاظ على الصورة التى سلف بيانها أمكن للدراسة أن تخوض في لب الموضوع، دون اى اضطراب. وتحديد الالفاظ، او تعريفها، كان أسلوبا لسقراط يسمى منهج (التهكم والتوليد)، استطاع به ان يقوّض جماعة السفسطائيين التى كانت تتخذ من غموض الالفاظ ثغرات تدخل منها الى الإيهام بغير الحقيقة والى تقويض كل المعتقدات والمعارف. وقد ظهرت في فيينا مدرسة أطلقت علي نفسها اسم quot;الوضعية المنطقيةquot; (1931) وكانت ترى ان اللغة بناء تتبدى فيه الملاحظات الحسية المباشرة وأن الدور الحقيقي للفلسفة (محبة الحكمة) ليس في وضع نظريات عامة، بل في الوصول الى الفاعلية عن طريق التوضيح المنطقى للتصورات العقلية والقضايا والنظريات، بتعريف الالفاظ وتحديد معناها .
قوض العلم مسلّمة كانت مستقرة وثابتة لدى البشر، مفادها ان الحواس الخمس هي مصدر المعارف كلها، وانها تحبس العقل فيما تقدمه له من انطباعات، فتكون قابضة عليه وليست دافعة لانطلاقه. فقد كشف البحث العلمي قصور الحواس، فأثبت ان ما تراه العين البشرية يقع بين 350 نانوميتر، الذى يظهر في اللون البنفسجي، حتى 750 نانوميتر الذي يظهر في اللون الاحمر . والنانوميتر وحدة قياس تعادل او تساوى 1: مليون من المتر . وبهذا يقع مجال الرؤية في خليط او تداخل الالوان الطيف السبعة: بنفسجي، نيلي، أزرق، أخضر، أصفر، برتقالى، أحمر. كذلك فإن ما تسمعه الاذن البشرية يقع فيما بين الذبذبة، او الترددات التي تتراوح من 15الى 20000 (عشرين ألف) من الهرتز، وهى وحدة لدورة في ثانية .
كان هذا الكشف المحدد والثابت أمرا يقطع بأن الحواس الخمس ليست كل شئ، وانما هي وسائل لكسب المعرفة والعلم، بما ينطلق بالعقل الى آفاق اوسع وأبعد، ولا تكون قابضة عليه حابسة له قط . فإن ظل البشر حبيس الحواس وما يأتيهم من الغير- والذي اختلفت الفرق والجماعات في تفسيره وتأويله- فإنه يعجز عن الحكم، ولا يكون مرجحا لتفسير على تفسير ولا تأويل على تأويل، مادام قد أفتقد القدرة الفحصية للعقل .
هذا هو السبيل الحقيقي لترقية الانسان وعبادة الله. فالتجريد الذي يصل اليه الانسان حين يُطلق قدرات عقله هو العبادة الحقة، اما التجسيد الذي يحبس الانسن داخل حواسه وفي نطاق شذرات من التعاليم، منقولات او موروثات، فهو يقع في الوثنية ، وإن ادعى أنه تخلص منها .
وحتى لا يكون القول مرسلا بغير دليل، مطلقا دون اثبات، تقدم الدراسة مثلا من اليهودية وآخر من الفكر الاسلامي (لا الاسلام) . ففي سفر الخروج جاء (.. ثم صعد موسى وهارون.. وسبعون من شيوخ اسرائيل ورأوا إله اسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الازرق الشفاف، وكذات السماء في النقاوة ..وكان منظر مجد الرب كنار آكلة على رأس الجبل .. ودخل موسى في وسط السحاب وصعد إلى الجبل) 20-24 .
وفي كتاب مقالات الاسلاميين (اى مذاهب المتأسلمين) لابي الحسن الاشعري عن قول (مذهب) جماعة منهم أن (معبودهم ndash; أى الله عندهم ndash; جسم وله نهاية وحدّ، طويل عريض عميق، طوله مثل عرضه وعرضه مثل عمله، لا يوفي بعضه على بعض) وعلّق الاشعري على ذلك فقال (قالوا طوله مثل عرضه، على المجاز دون تحقيق) . وعن جماعة أخرى ذكر الاشعري انهم (زعموا ان الله نور ساطع . له قدر من الاقدار في مكان دون مكان، كالسبيكة الصافية تتلألأ كاللؤلؤ المستدير من جميع جوانبها . ذو لون وطعم ورائحة ومجسّة، ولونه هو طعمه، وطعمه هو رائحته، ورائحته هى مجسّته، وهو نفسه لون) وقال عن جماعة ثالثة ، أنهم يقولون عن الله (إنه جسم ذاهب جاء، فيتحرك تارة ويسكن آخرى ويقعد مرة ويقوم بأخرى . وأنه طويل عريض عميق، لأن ما لم يكن كذلك دخل في حدود التلاشي). وعن جماعة رابعة ذكر انهم يقولون أن (الله صورة الانسان، وهو نور ساطع ذو حواس) تراجع هذه الآراء وآراء آخرى عن وصف الله في كتاب أبى الحسن الأشعرى ndash; مقالات الاسلاميين الطبعة الثانية 1969 ndash; الجزء الاول ndash; صفحة 106 وما بعدها .
تلك أوصاف صادرة عن الحواس المادية، وتحبس العقل في هذه الحواس، فإن حاول تصور الله الذي (ليس كمثله شئ) تصوره مادة، وتكلّف في وصفها حتي تغاير باقى المواد، ثم هو من بعد، يصمم على قوله ويحارب الناس كي يفرضه عليهم، وفي سبيل فرضه على الناس اوقتاله لهم، فإنه يدعى أنهم كفار مشركين، يدينون بالوثنية، مع أنه هو الذي يعبد وثنا، ويتخذ من المواد الظاهرة ديناً، فلا يعبأ بالحقائق التى توجد فيما بعد المواد وفيما وراء الحواس، وبها تتكامل الحقيقة.
ولكي تتابع الدارسة هذا الاتجاه التجسيدى الوثني وكيف أنه صار هو العقيدة عند أكثر الناس، الذين قال القرآن عنهم (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) تتابع الدارسة ما حرره أبو حامد الغزّالى (1059 ndash; 1111م) وقد كان يعمل لنظّام الملك الوزير السلجوقي، وأصله من فارس، وقد وُصف الغزّالى بأنه حجة الاسلام وزين الدين وعالم العلماء ووارث الانبياء، لكن آخرون قيّموا أعماله وقالوا إنها احدثت تأثيرا عميقاً عند المسلمين فانصرفوا عن العلوم الطبيعية والعقلية حتى اندثرت، وانتهي الامر الى جمود الحركة الفكرية. وقد فهم الغزّالى في كتابه quot;إحياء علوم الدينquot; الذي ظل دستورا للمسلمين مدى عشرة قرون، كل شئ من خلال الحواس المادية، وفيه جسّد القوى وجعلها مُجسّمة فيما سماه الملائكة، فقال نصا quot;الصناع في الباطن هم الملائكة كما أن الصناع في الظاهر هم أهل البلاد . لا بد من ملك يجذب الغذاء الى جوار اللحم والعظم... ولابد من ملك آخر يمسك الغذاء الى جواره ولابد من ثالث يخلع عنه صورة الدم.. ولا تظن أن الدم بطبيعته يهندس شكل نفسه فإن محيل هذه الامور على الطبع جاهل لا يدرى ما يقول. فهذه هى الملائكة الارضية وقد شُغلوا بك وأنت في النوم تستريح وفي الغفلة تتردى، وهم يصلحون الغذاء في باطنك ولا خبر لك منهم، وذلك في كل جزء من أجزائك الذي لايتجزأ، حتي يفتقر بعض الاجزاء كالعين والقلب الى اكثر من مائة ملك (المرجع المشار إليه صفحة 2270-2271) .
هذا تقديرمختل وتقرير معتل، يقصد الى توثين (من الوثن) القوى وإلى تجسيد الوظائف، ويبث في جسم البشر آلافا من الملائكة، فإذا اختلت قوة او اعتلت وظيفة عزى ذلك إلى الشيطان . فكيف يحيا الشخص بين آلاف الملائكة والشياطين، وهو لا يعرف كيف تعمل، ولماذا تتغير، ومتى تتوقف؟
حينما نضج العقل، وانفلت من سيادة العقيدة المنظمة وعبادة الكهانة الغاشمة، بدأ يتحول شيئا فشيئا من التجسيد إلى التجريد، ومن طقوس الوثنية الى العبادة السوية. ولأن الأدلة تتكاثر في بيان ذلك، فإن الدراسة تقتصر على مفهوم ونتائج كشف فزيائى واحد، هو نظرية الكم (أو الكموم) الآلية (أو الميكانيكية) (Quantum Mechanical theory )، وفيها ينتهي الكشف الى أن الذرة (Atom) ليست هي أصغر شئ في الكون، لكنها تنحل إلى جزئيات (Particles) ليس لها مظهر واحد ، إنما قد تكون مادة وقد تكون موجة، وفقاً لوجهة النظر التى يتخذها الباحث . ومفاد ذلك أن ما يبدو للرائى كمواد قد يظهر لآخر كموجات، ويكون كل العالم المادى ndash; من وجهة نظر آخرى ndash; موجات متدفقة. يضاف إلى ذلك ما تجلى من أن الجزئيات (Particles) لا تتخذ في مسارها وضعاً جامداً محدداً، لكنها تتميز بالشعورية والذاتية والتلقائية، وأنها في تصرفها لا تبدو كمن يتأثر بالمحيط القريب منها، ولكنها تتصرف على أنها تتأثر بمجال أكبر، وهو مع التدارج ينتهي الى الكون كله، ويدلل على ان الكون متواصل متداخل، أقرب ما يكون الى الوحدة الواحدة . وهكذا من نظرية فزيائية واحدة تتقوض الوثنية وتتبدد الجبرية وتتصدع التجسيدية، وإذا كان ذلك نتيجة لإعمال العقل، فإنه أكبر دليل على أن انطلاق العقل من الحواس ينتهي إلى الايمان الصحيح، وأن انحباس العقل في الحواس يتأدى الى الوثنية والتجسيدية والجبرية، التى ظهرت بوضوح وجلاء في الامثلة التي ذكرتها الدراسة نصا من التوراة ومن كتاب الاشعري (مقالات الاسلاميين) ومما ذكره الغزّالى نصا في كتابه احياء علوم الدين : وفيها وُصف الله بأوصاف مادية، كأنما هو وثن، في حين الله قوة القوى وفكرة الفكرات وقانون القوانين، لا يمكن استيعاب معناه إلا بالعقل الذي يصل إلى التجريد، فيستوعب الظاهر والباطن، والقوى وعملها، والقانون وتطبيقه، والفكرة وآثارها.
إن العلم والمعرفة والثقافة والتربية والإعلام ينبغي أن تعاود فهم الموروث والتقليد والاتباع لكي تتحول الى الابتكار والتجديد والابتداع، فيجمع الانسان في نفسه بين الظاهر والباطن، والمجسّد والمجرد، والجلىّ والخفىّ، والمبني والمعني، والجوانى والبراني، والمشهود والغيبي، والعين والجن. بهذا يتوحد الانسان في ذاته فيكون في الله الواحد البديع الخلاق، ويحقق مأراده الله من الخلق، فلقد خلق الله الانسان ليخلٌق به، ولا يخلق الله بالشخص الجاهل العاجز الفاسد، لكنه يخلق بانسان عالم عارف كامل.
E-mail : [email protected]
التعليقات