كان العرب في الجاهلية وأقوام أخرى يعبدون الأصنام التي يصنعونها من أخشاب وأحجار. بُعث اليهم الرسل والأنبياء فكانت حجتهم الوحيدة في استنكارهم على الرسل دعوتهم الى وحدانية الخالق، أن ابآئهم واجدادهم عبدوا ما هم يعبدون. إذن لم يكن هناك مجال للعقل ان يأخذ سبيله مع هؤلاء الأقوام الأضل سبيلا.
عبادة الأصنام لم تتوقف ببعثة الاسلام واستمرت تتأرجح في فصول التاريخ, ربما لم يعد في منطقتنا اي رواج لعبادة الأخشاب والأحجار والألواح إلا قليلاً، لكن عبادة الأصنام من نوع آخر مازالت قائمة.
عبادة الزعماء، الأحزاب، الفئات، القوميات، الأوطان وأشياء أخرى لم تزل معمولة بها لدى قطاعات واسعة من البشر في منطقتنا. وإذا كانت العبادة في مبتغاها الذاتي، محاولة جادة لبلوغ السعادة والجزاء الحسن، فإن عبادة الكينونات التي ذكرناها لم تزدنا إلا تعاسة وشقاءً.
العصبية القومية والاقليمية تتضرم وتتورم فينا يوماً بعد آخر الحياة التي هي نعمة لا تضاهيها نعمة أخرى ولا تُعوَّض إذا فقدناها، تحولت الى جحيم دنيوي مسعَّر في ظل الاحتدام والفوران القومي/الوطني العنصري، البالغ منزلة العبادة المقدسة.
ولو كانت هذه العبادة تزودنا بالقليل من الراحة في حياتنا التعيسة، لقلنا ان الانضمام الى صفوف العبادة القومية/الوطنية ليس بذلك الذنب العظيم، بل وربما سُنّة حسنة, ولكن الامر بعيد المنال في خوضه بُعد المشرق والمغرب.
العراق بحدوده الحالية كيان مصطنع بامتياز, فالدولة العثمانية التي كانت امتداداً للشكل البنيوي لهوية منطقتنا، وقعت تحت حِراب القوى الخارجية ومزقتها الى قطع متناثرة في كيانات اقليمية هشّة، قوامها الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وتحويل الدويلات الجديدة الى أحواض دماء تسبح فيها الشعوب.
اتفاقية (سايكس ــ بيكو) رسمت الحدود الحالية للدولة، وتكفّل الانكليز بولايتها وأعاروها مَلِكاً ببادية العرب لا يمت بصلة الى العراق في هويته الاقليمية بشئ.
إن من يقرأ بدايات تكوين العراق وجهل الفئات التي تقلّدت لاحقاً هويته الدولية التي أقرها مجلس العموم البريطاني ومن ثم عصبة الأمم، لا يكف من الضحك, ففي استطلاعات كثيرة في البصرة وبغداد ومنطقة كُردستان قامت بها بعثات دبلوماسية غربية، انكليزية خصوصاً، لغرض معرفة مدى عِلم الأهالي بالتكوين الجديد للعراق وهويته، يستغرب الناس في دهشةٍ لم يسمعوا فيها بشئٍ من هذا القبيل, لكن الدولة تشكلت، وبدأت الحروب والنزاعات بين القوميات والاقاليم تجرّ تدخلات خارجية، وكوارث نعاني أهوالها الى اليوم.
في صنمية العراق نقرأ صنميات أخرى كالصنمية التركية/الأتاتوركية والصنمية السورية والعروبية والكُردية والشاهنشاهية الآرية وأخرى كثيرة بل وأكثر من آلهة اليونان القديمة. ولكل آلهة من هذه الآلهة والأصنام جيوش ومخابرات وسجون وأهوال وعذابات لا تنتهي في عقاب أزلي ضدنا جميعاً. وكلما زدنا عبادة لهن زادتنا الأصنام شقاء وتعاسة وموتا.
منذ ذلك التاريخ اي آوان الحرب العالمية الأولى في القرن الماضي وفي أعقابها حيث ولدت الكيانات تباعاً، ووفق مصالح القوى العظمى، فإن الشغل الشاغل لهذه الدول القومية في الشرق هو الغاء التعدد الثقافي والإثني، والنزاعات الحدودية، والحروب والانقلابات الداخلية وإهدار الثروة الوطنية، وتوزيع التخلف والدمار على شعوبنا بالقسطاس والعدل.
في العراق واجهت الانظمة الثورات الكُردية من أجل الاستقلال بالاسلحة الانكليزية. وفتكت بالعرب والكُرد والآخرين، خسائر في الأرواح والممتلكات والأموال في هلوسات تدسترت وتقننت، حتى صارت تقليداً يصوغ النفوس والعقول الخلائقية، بشرعية القتل والفتك لمن سولّت نفسه المساس بالمقدس الحدودي للدولة التي لم تقدر أن تحمي نفسها منذ الولادة، إلا بحبل من الظلم الفاحش وحبل من الخارج لم ينقطع قيد الشرط والركون اليه، الى الخارج.
الدولة صارت لدى الأجيال الناشئة مقدسة والانتماء اليها احساساً بوجودها الأزلي ولذلك فان الحقوق الوجودية للانتماءات والتلاوين الأخرى أصبحت كفراً وزندقة يستوجبان جزاء الدولة العادل بالقتل والزوال، ولو كلّف ذلك ثروة الدولة كلّها. فالبيرق (العلم) الوطني ونشيده الجيّاش أمد المواطنين بنشوة الكينونة، والارتماء الناعس في أحضان المفترض حنيّتة في أبوة رحيمة، دولة مهمومة باسعاد الأفراد.
لكن الدولة العراقية والمفارقة القاتلة والأليمة حذّ الموت النكد، أن أرض العراق وهي أرض الخيرات والثروات، لم تزود مواطنيها إلا بالجوع والعذاب والقمع والموت (ما مرّ عام وليس في العراق جوع) كما قال سيّاب الشاعر. وحين نتحدث عن العراق فاننا نرسم صورة الشرق في كياناته الاقليمية السرطانية. وهذه الكيانات رغم وجود امكانيات هائلة لم تصدّر للبشرية اي منتوج سوى العدد الأضخم للاجئين الى دول العالم.
الوطن كمفهوم وكواقع هو مهد الانسان للعيش في كنفه. لكننا كلما فتحنا باباً من أبواب هذه الأوطان الاقليمية عندنا، فان زبانية الموت هم المُستَقبلين لنا. والحال أصبحنا وأمسينا شعوباً نهتف للحكام والاعلام المرفرفة. والأمطار أينما هطلت عادت الى خزائن الملوك والقادة الشرقيين في بنوك الغرب, ونمضي في عصبيات تتناوش نيرانها فوق رؤوسنا في ظلمات ليالينا الطوال، وأحقاد تملأ النفوس أضغاناً فوق أضغان.
فبعد أكثر من ثمانية عقود من ولادة العراق مازال الجوع والخراب والقتل النزيل الدائم لدى أهله. والعكس في الغرب هو الصحيح، فدوله وشعوبه في هناء ورخاء المفترض صحة عقولهم ونفوسهم إرشاد الناس الى المزيد من التسامح والسلم وعظمة الحياة، ونقصد المثقفين، نجدهم في شغل العصبيات فاكهون, فالدعوة الى وحدة العراق لدى البعض حدّ التقديس الهندوسي للأبقار، وإنشاء كيانات أخرى لدى آخرين في احتدام غليظ بعيد عن ادنى التزامات انسانية على مستوى الأدب والخلق، تفوق الدعوة الى إعادة الاعتبار الى الانسان وحياته, فالانسان بغض النظر عن لونه وجنسه و لغته أعظم من كل الأوطان والبيارق والدول. فهذه كلها خلقت ووجدت من أجله.
وإذا عظم افتداء الانسان بروحه من اجل الوطن والأرض فإن المعنى الكامن في ذلك هو الحفاظ على حياة الانسان وديمومتها. وسميّ الشهيد شهيداً بلوغ التكريم وقدسية المقصود، لأنه شاهد على الحياة امام الوجود كله.
اليوم يستغرق الجمع في همجية مستفحلة استرداد الحق الوجودي في الحياة من بعضهم البعض، فضلاً عن انكار الهوية والانتماء العائدين الى مشيئة الانسان ورغبته, كلّ بيارق الدنيا لا ترقى الى كسرة خبز تسدّ رمق جوع طفل يتيم في اي بقعة من بقاع الأرض, وكل الأوطان لا تبلغ قيمة تلك اللحظات التي يعيشها الأطفال مع آبائهم وأمهاتهم بهناء وسلام, وكل الدول ودساتيرها القومية والعنصرية لا تساوي دمعة في مآق أم ثكلى أو مظلوم يئنّ في نحيب. فلننتصر للانسان اينما كان وليس للعصبيات والأصنام التي تجلب البلاء تحت أجنحتها.
(ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر).