فى زيارتى الأخيرة للقاهرة أهدانى الصديق د. شريف دوس أستاذ الأمراض الباطنية رواية quot;قرية ظالمةquot; من تأليف د. محمد كامل حسين، ولا ابالغ القول بأن هذه الرواية هى من أفضل ما قرأت فى الأدب عن صلب السيد المسيح، وبالتأكيد هى افضل ما كتبه مسلم فى تاريخ الأدب العربى كله عن هذا الحدث الجلل.بعد قراءة الرواية تشوقت أن اعرف المزيد عن هذا الرجل ووجدت سبيلى فى الدراسة المتميزة عنه التى كتبها الاستاذ نسيم مجلى بعنوان quot;ابن سينا القرن العشرينquot;، وعرفت المزيد عن هذا الرجل الفذ فهو من رواد جراحة طب العظام فى مصر ويمثل علما فى تخصصه وفى تاريخ جراحة العظام، ورأس قسم جراحة العظام بجامعة عين شمس وكان مديرا للجامعة أيضا واستحق أن يحصل على جائزة الدولة التقديرية فى العلوم عام1966، وفى الفكر والادب هو عملاق قال عنه الراحل فتحى رضوان quot; بين الكتاب والمفكرين والأدباء رجل فريد، ليس فيمن حمل القلم فى الخمسين سنة الماضية رجل يشبههquot;، وله مؤلفات عديدة فى العلم والادب والطب والفلسفة والإنسانيات، ونظرا لفصاحته اللغوية أستحق أيضا عضوية مجمع اللغة العربية الذى يطلق عليه مجمع الخالدين.
فى سنة 1954 نشرت مكتبة النهضة روايته quot; قرية ظالمةquot;، وأعادت نشرها دار الشروق فى 2007. وصفها البعض بأنها اجمل ما كتب المؤلف بل وهناك من يرى إنها أجمل ما كتب عن الأيام الأخيرة للسيد المسيح حتى أن المفكر الدكتور حسين فوزى الملقب بسندباد مصر قال عن الرواية quot;كتاب قرية ظالمة بهرنى وهز كيانى، لقد فاق إنبهارى بهذا الكتاب كل ما سبقولحق بهquot;. وترجمت الرواية إلى الانجليزية والفرنسية والهولندية والتركية واستحق عنها جائزة الدولة التقديرية فى الأدب والتى حصل عليها عام 1957، وهو بهذا يعتبر أول مصرى يجمع جائزتى الدولة التقديرية فى الأدب والعلوم؟.
القرية الظالمة هى اورشليم التى وصفها السيد المسيح بنفسه بأنها قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، ولعنها قائلا هوذا بيتكم يترك لكم خرابا، ومن وقتها والحروب والكراهية لم تبرح اورشليم، وقيافا رئيس الكهنة عند اليهود وبيلاطس الحاكم الرومانى ليسا ممثلين لليهود والرومان فقط بل ممثلين للإنسانية كلها حين تخاذلا أمام الرعاع وسلما المسيح ليصلب، حتى ان المؤلف يصف يوم الجمعة الحزينة بأنه quot; كان يوما ضل فيه الناس ضلالا بعيدا، وأوغلوا فى الضلال حتى بلغوا غاية الإثم... وما كانت دعوة المسيح إلا أن يحتكم الناس إلى ضميرهم فى كل ما يعملون وما يفكرون،فلما عزموا أن يصلبوه لم يكن عزمهم إلا أن يقتلوا الضمير الإنسانى ويطفئوا نوره... وهكذا حكم على المسيح بالصلب من أجل كفره بالله!!، فهل يبقى بعد ذلك لأحد ثقة فى حكمة الإنسان؟..... فهذه الخطيئة أكبر ما ارتكب الإنسان من خطايا فى تاريخه الحافل بالذنوبquot;.
لم يشأ الدكتور محمد كامل حسين أن يدخل فى الجدل اللاهوتى بين المسيحية والإسلام عن مسألة صلب المسيح ولهذا كان المدخل الإنسانى هو وجهته فى تقييم هذا الحدث من خلال دراسة فلسفية رائعة للضمير الإنسانى وأزمته. وقد تتبع المؤلف ببراعة فلسفية وروائية ضمير كل المجموعة التى كانت شاهدة على الصلب أو شاركت فيه والصراع بين الخير والشر الذى اعتمل داخل كل فرد منهم، من بيلاطس إلى قيافا إلى ممثل الإتهام إلى مريم المجدلية إلى تلاميذ المسيح إلى الجندى الرومانى التائب إلى حتى الحداد الذى كلف بصناعة المسامير اللازمة لعملية الصلب.
ركز المؤلف على أزمة الضمير فى عملية الصلب، فالذين قالوا اصلبه دمه علينا وعلى اولادنا هم الجماعة، أى الجماهير... والجماعة خنقت ضمير الفرد، فالجماعة عند المؤلف ليست فقط بلا عقل ولكن بلا ضمير أيضا، وقد افرد مساحات واسعة للشرح الفلسفى حول إنعدام ضمير الجماعة، quot;إن ضمير الفرد لا يمنع أن ترتكب الجماعة أعظم الذنوب ما دامت ترتكب باسم الجماعة. والضمير وحده هو الذى يصرف الناس عن الشر، والجماعة لا ضمير لها، ولا يزعج أحد من أفرادها ما ترتكبه جماعته، مهما يكن الإثم عظيماquot; وفى موضع آخر يقول quot; الإنسان يقف أمام الجموع الهائجة كما يقف أمام الحيوان المفترس، فالجموع الحاشدة لا تفهم الحق ولا العقل ولا العدل، وأنها لا تفهم إلا القوة ولا تخضع إلا لها.... فالجماعة تقدم على الشر فى يسر بالغ لأن أفرادها يقتسمون وزر الإثم فلا يشعر أحد منهم أنه آثم حقا، والجماعة تقدم على الخير بصعوبة لأن كل فرد منها يؤثر أن ينسب إليه الفضل quot;ولهذا يعتبر المؤلف أن تضحية الفرد فى سبيل الجماعة هى كفر بالضمير وسننه.
يصل المؤلف إلى رسالته من خلال تناول قصة صلب المسيح حيث يعتبر أن هذا التاريخ نقطة فاصلة فى تاريخ الإنسانية حيث سقطت بعده البشرية فى أزمة ضمير. ومما يؤسف له أن أكبر الجرائم فى تاريخ البشرية أرتكبت من آجل الحفاظ على الدين أوعلى الوطن وكل هذا يعتبره المؤلف أوثان يجبر البشر على عبادتها quot; سيحل الناس القتل والإيذاء بدعوى الدفاع عن الدين وحماية العقيدة حينا، وبدعوى الدفاع عن الوطن والنفس حينا آخر، ألا فاحذروا الأمرين.إن حمل السلاح أو آذى الناس دفاعا عن الدين فقد وضع الدين فوق الله الذى يامر بالحب لا بالقتل، والله كفيل بحفظ دينه وليس فى حاجة إلى عبيد خاطئين ينقذونه. إن الذين يدافعون عن الدين بإيذاء الناس إنما يدافعون عن رأيهم وحدهم، بل أكثرهم إنما يدافع عن حقوقه ومزاياه ويتخذ الدفاع عن العقيدة عذرا يعتذر به.... ومن الأوثان التى سيعبدها الناس الكرامة القومية، والوطنية، والولاء، والطاعة لأولى الأمر، والقانون وسيسمونها الفضائل المدنيةquot;.
لقد هدم محمد كامل حسين اوثانا كثيرة فى كتاباته يستغلها تجار الدين والقومية، وركز على إنسانية الإنسان وحريته وفرديته وضميره، وهو بهذا يعد من رواد الحريات وحقوق الإنسان والعلمانية فى مصر مع اصدقائه لطفى السيد وطه حسين وسلامة موسى ومحمود فوزى ولويس عوض وحسين فوزى.
وإذا كانت اورشليم التى قدمها لنا قرية ظالمة، فإن كتاباته كشفت لنا عن عقل مستنير راق إنسانى يعمل على بناء جسور من الود والحب مع شركاءه فى الوطن والإنسانية.
[email protected]
القرية الظالمة هى اورشليم التى وصفها السيد المسيح بنفسه بأنها قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، ولعنها قائلا هوذا بيتكم يترك لكم خرابا، ومن وقتها والحروب والكراهية لم تبرح اورشليم، وقيافا رئيس الكهنة عند اليهود وبيلاطس الحاكم الرومانى ليسا ممثلين لليهود والرومان فقط بل ممثلين للإنسانية كلها حين تخاذلا أمام الرعاع وسلما المسيح ليصلب، حتى ان المؤلف يصف يوم الجمعة الحزينة بأنه quot; كان يوما ضل فيه الناس ضلالا بعيدا، وأوغلوا فى الضلال حتى بلغوا غاية الإثم... وما كانت دعوة المسيح إلا أن يحتكم الناس إلى ضميرهم فى كل ما يعملون وما يفكرون،فلما عزموا أن يصلبوه لم يكن عزمهم إلا أن يقتلوا الضمير الإنسانى ويطفئوا نوره... وهكذا حكم على المسيح بالصلب من أجل كفره بالله!!، فهل يبقى بعد ذلك لأحد ثقة فى حكمة الإنسان؟..... فهذه الخطيئة أكبر ما ارتكب الإنسان من خطايا فى تاريخه الحافل بالذنوبquot;.
لم يشأ الدكتور محمد كامل حسين أن يدخل فى الجدل اللاهوتى بين المسيحية والإسلام عن مسألة صلب المسيح ولهذا كان المدخل الإنسانى هو وجهته فى تقييم هذا الحدث من خلال دراسة فلسفية رائعة للضمير الإنسانى وأزمته. وقد تتبع المؤلف ببراعة فلسفية وروائية ضمير كل المجموعة التى كانت شاهدة على الصلب أو شاركت فيه والصراع بين الخير والشر الذى اعتمل داخل كل فرد منهم، من بيلاطس إلى قيافا إلى ممثل الإتهام إلى مريم المجدلية إلى تلاميذ المسيح إلى الجندى الرومانى التائب إلى حتى الحداد الذى كلف بصناعة المسامير اللازمة لعملية الصلب.
ركز المؤلف على أزمة الضمير فى عملية الصلب، فالذين قالوا اصلبه دمه علينا وعلى اولادنا هم الجماعة، أى الجماهير... والجماعة خنقت ضمير الفرد، فالجماعة عند المؤلف ليست فقط بلا عقل ولكن بلا ضمير أيضا، وقد افرد مساحات واسعة للشرح الفلسفى حول إنعدام ضمير الجماعة، quot;إن ضمير الفرد لا يمنع أن ترتكب الجماعة أعظم الذنوب ما دامت ترتكب باسم الجماعة. والضمير وحده هو الذى يصرف الناس عن الشر، والجماعة لا ضمير لها، ولا يزعج أحد من أفرادها ما ترتكبه جماعته، مهما يكن الإثم عظيماquot; وفى موضع آخر يقول quot; الإنسان يقف أمام الجموع الهائجة كما يقف أمام الحيوان المفترس، فالجموع الحاشدة لا تفهم الحق ولا العقل ولا العدل، وأنها لا تفهم إلا القوة ولا تخضع إلا لها.... فالجماعة تقدم على الشر فى يسر بالغ لأن أفرادها يقتسمون وزر الإثم فلا يشعر أحد منهم أنه آثم حقا، والجماعة تقدم على الخير بصعوبة لأن كل فرد منها يؤثر أن ينسب إليه الفضل quot;ولهذا يعتبر المؤلف أن تضحية الفرد فى سبيل الجماعة هى كفر بالضمير وسننه.
يصل المؤلف إلى رسالته من خلال تناول قصة صلب المسيح حيث يعتبر أن هذا التاريخ نقطة فاصلة فى تاريخ الإنسانية حيث سقطت بعده البشرية فى أزمة ضمير. ومما يؤسف له أن أكبر الجرائم فى تاريخ البشرية أرتكبت من آجل الحفاظ على الدين أوعلى الوطن وكل هذا يعتبره المؤلف أوثان يجبر البشر على عبادتها quot; سيحل الناس القتل والإيذاء بدعوى الدفاع عن الدين وحماية العقيدة حينا، وبدعوى الدفاع عن الوطن والنفس حينا آخر، ألا فاحذروا الأمرين.إن حمل السلاح أو آذى الناس دفاعا عن الدين فقد وضع الدين فوق الله الذى يامر بالحب لا بالقتل، والله كفيل بحفظ دينه وليس فى حاجة إلى عبيد خاطئين ينقذونه. إن الذين يدافعون عن الدين بإيذاء الناس إنما يدافعون عن رأيهم وحدهم، بل أكثرهم إنما يدافع عن حقوقه ومزاياه ويتخذ الدفاع عن العقيدة عذرا يعتذر به.... ومن الأوثان التى سيعبدها الناس الكرامة القومية، والوطنية، والولاء، والطاعة لأولى الأمر، والقانون وسيسمونها الفضائل المدنيةquot;.
لقد هدم محمد كامل حسين اوثانا كثيرة فى كتاباته يستغلها تجار الدين والقومية، وركز على إنسانية الإنسان وحريته وفرديته وضميره، وهو بهذا يعد من رواد الحريات وحقوق الإنسان والعلمانية فى مصر مع اصدقائه لطفى السيد وطه حسين وسلامة موسى ومحمود فوزى ولويس عوض وحسين فوزى.
وإذا كانت اورشليم التى قدمها لنا قرية ظالمة، فإن كتاباته كشفت لنا عن عقل مستنير راق إنسانى يعمل على بناء جسور من الود والحب مع شركاءه فى الوطن والإنسانية.
[email protected]
التعليقات