((لا تشاور صاحب حاجة يريد قضاءها، ولا جائعا، ولا حاقن بول)) ابن قتيبة
يقف المرء عاجزا في الكثير من المواقف، حين يتعامل بشكل مباشر مع المزيد من الأحداث الاجتماعية، وبقدر العجز الفاضح الذي يتفاقم ويتصاعد خلال التفاعل مع المجموعات، فإن حدة الأثر تقل وبحدود نسبية مع الأفراد، لكن يبقى التداول للمعاني عرضة للهزات العنيفة، حيث الأحوال والأوضاع المختلفة تلك التي تحيط بالواقع. في المقهى أو الشارع العام أو السوق، حيث يحدث احتكاك بين شخصين، تتبدى ملامح العقلية السائدة، فقد ينتهي الحادث الطارئ بربتة على الكتف، ويسير كل من الطرفين إلى حال سبيله، أو قد يتصاعد الموقف لينجم عنه تطورات واحتقان، يبدأ وقد لا ينتهي، ما بين فرجة المتطفلين، وتدخل الطيبين وتأزيم المحرضين، تبرز للعيان صورا وملامح مختلفة ومتنوعة.هذا على صعيد الفعل الاجتماعي المباشر فكيف الحال بالتفاعلات الأوسع والأشمل، لا سيما السياسي منها، تلك التي باتت تمثل في العقلية العربية بوابة نحو انفلات الغرائز، حيث التعامل مع المعطيات بروح المنفعل وترسيم معالم كل شيء عبر الموقف المسبق، وهكذا تتحول مفاهيم مثل الدين والوطنية والمذهب، إلى أساليب ووسائل وأدوات لا غاية فيها سوى التطلع نحو الإقصاء والإخصاء والإلغاء.، إنها الشخصنة للمعايير والتوظيب الحاذق والدقيق للمجمل من وسائل الصراع، بغية السيطرة على موجهات السلطة، وعبر هذا التقصي والبحث المحموم ، يكون التطلع نحو الإمساك بناظم العنف الشرعي حيث (الدولة).
لقد اختصر لويس الرابع عشر 1638-1715 الفكرة حين صاح قائلا(أنا الدولة والدولة أنا) وهو الملك الشمس، حيث فرنسا التي عرفت في عهده التقدم الثقافي والفني والعسكري، لكن شخصنة المؤسسات ، كانت بمثابة البوابة نحو الانحدار، حتى كانت الثورة الفرنسية عام 1789. إنها ثقافة التخصيص والتقريب والانتقاء، حيث العائلة و القبيلة والطائفة والجماعة الخاصة، تلك التي تلقي بثقلها وظلها على المجمل من الفعاليات والعلاقات،باعتبار أحوال التمثل العربي لتفاعلات مفهوم الدولة المستوردة. وإذا كان الغرب قد قيض له الخلاص من عقلية الاستبداد عبر المزيد من التحولات التاريخية التي تصدت لها النخب، فإن الواقع العربي بقي يعيش حالة النهل والنقل الفج للصورة المسخ والشوهاء لمشروع الدولة الناقص، الذي ما انفك يعاني من التشوه والوهن بدءا من قيام الدولة القطرية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وصولا إلى الراهن المضيع.
إنها حكاية ((الدهر آخره شبه بأوله، ناس كناس وأيام كأيام))، تلك التي تتطابق مع مشروع الدولة العربي، حيث الربط المباشر بين الأشخاص والمؤسسة ، فيما يكون التطابق المربك واضحا مع المزاجية العامة للجماهير، حيث الانفعالات في أقصاها، تلك المتوجهة نحو التنفيس عن المكبوت. إنها تداخلات وتناقضات الرغبة في وضع الضحية، والفرح الغامر الذي يعرش في نفس المعارض باعتباره ضحية لسوء استعمالات الدولة.وهي أحوال التداخل التي تتبدى عن الجمهور بين شعور التعاطف مع المعارض للدولة، ومحاولة التزلف لرجل الدولة، فيما تبقى الفاصلة وقد توقفت عند فقدان التمييز بين الدولة والنظام الحكومي، وما ينجم عنها من نقص بشع في طريقة توزيع المشاعر بين الولاء للدولة باعتباره مدخلا أساسيا لروح المواطنة، وترسيم معالم استراتيجيات الهوية، وإيحاءات رومانسية الشهادة، تلك التي تتقمصها صورة المناضل الثوري، تلك التي راحت تتشكل ملامحها في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وما نجم عنها من تفاقم لأعراض الإيحاء بأهمية الرفض للدولة وليس النظام. ومن هذا راحت مفردة المظاهرة الاحتجاجية التي تنطلق للتعبير عن رفض لقرار سياسي صادر عن الحكومة، تتحول إلى هياج لا شيء فيه سوى الشغب والفوضى والتدمير لممتلكات الدولة، إنه الشجب لموقف سياسي ولكن على طريقة التدمير الذاتي، ذلك الذي يتبدى في استهداف مؤسسات الدولة من أبنية ووسائل نقل عامة بل وحتى أسيجة الحدائق العامة. إنها التلقائية التي تكشف عن المعدن الأصيل للعقلية الجمعية السائدة في مجتمع ما، وهي الفرصة السانحة للتعبير عن مكنون النفس والكشف عن النوازع الساعية نحو السلب والنهب والفرهود الذي أصبح علامة فارقة في تاريخ البعض من المجتمعات.
بين النقد الجذري والتحريض القائم على التبرم والرفض لكل شيء، تبرز ملامح الموقف من جسم الدولة في المجال العربي، هذا الجسم الذي أضحى هدفا سهل المنال للمجمل من فعاليات الانفعال والتحريض والإيحاء والجمهرة.فالغياب المرير للنقد الأصيل يبقى بمثابة العلامة الفارقة في الحياة العربية، في الوقت الذي راح يتبدى ماثلا وبحضور لافت حضورية التحريض والرفض الخالي من التشخيص للعلل والأسباب. وعلى هذا راحت الحالة العربية تعيش لحظات من التوقف الذي يعقبه التوقف، حيث الفشل والخلل الذي لاينقطع وفي مختلف القطاعات الاجتماعي والسياسي والاجتماعي والثقافي. وراحت ثقافة التهييج تفرض بحضورها على التداول السائد حتى في الأوساط الثقافية، إذ تحول المحرضون إلى نجوم يشار إليهم بالبنان، إن كان على صعيد الحوارات التي تتبناها الفضائيات أو أعمدة الصحف ومواقع الإنترنت. فيما ينزوي النقد العلمي في عزلة لافتة وإعراض عن الالتفات إليه. إنها أحوال الاضطراب التي تجعل من العملة الرديئة طاردة للعملة الجيدة، وهكذا يكون المجال وقد توقف عند السطح، فيما يتعرض العميق والأصيل إلى التغييب.