القسم الأول: الولاية والنبوة

(كنت ولياً في حين كان آدم بين الماء والطين) حديث نبوي وارد في كتب التشيع

تُعد الولاية من الركائز الأساسية التي شكلت الأيدلوجية الفكرية للمذهب الشيعي، فهي إنبثاق بديهي عن مفهوم الإمامة، بل وشكلت بداية لإشكاليات عديدة خاصة بعد مرحلة الغيبة ـ غيبة الإمام الثاني عشر ـ في ارتباط الولاية بالفقهية، وظهور مبدأ ولاية الفقيه، الذي شغل الفكر الشيعي لقرون طويلة امتدت منذ حوالي القرن الرابع الهجري، وصولاً في تجلِ منها إلى الجمهورية الإسلامية، وإلى الأن يظل مفهوم الولاية موضع للعديد من التساؤلات والخلافات بين مختلف الرؤى الشيعية على المستوى المذهبي وتطبيقاته السياسية، فهي مفهوم معقد إلى حد بعيد، محاولة رصدها بمثابة تتبعاً لتاريخية الفكر الشيعي من حيث النظرية والممارسة.
الولاية من حيث اللغة تفضي إلى شقين رئيسيين دلالياً، الأول المحبة، والثاني المناصرة والمسؤولية، أي أن الولي هو المحبوب والصديق والقريب، وهو أيضاً الحاكم والناصر، فهو يوحد من حيث الدلالة اللغوية بين ما هو ديني، وما هو تاريخي سياسي.فدائماً هناك مرحلتين لفهم الولاية الباطن والظاهر، الباطن المتمثل في الإيمان، والظاهر المتجسد في التاريخ. ولكن ما هي العلاقة القائمة بين التشيع والولاية من هذه الزاوية؟، هذا ما سنحاول طرحه بشكل مبدئي فيما سيأتي.
المقصود بالأولياء بشكل مباشر في التشيع هم الأئمة، أوصياء الله على خلقه، كما يراهم المذهب الشيعي، فهم استكمال لدوائر المقدس بعد وفاة النبي، فالأئمة هم مرآة الله في العالم، فلا يمكن معرفة الله إلا من خلالهم، فهم السبيل الوحيد إليه، بنورهم خلق الله العالم، فهم أصل الوجود بأكلمه، فلولاهم ما كان الخلق.أي أن الأئمة يُجسدون المثالين بشكل واضح، فهم القائمون على العالم لهدايته الدينية، وفي نفس الفكرة، هم الحكام الحقيقيون على المستوى التاريخي والسياسي كما تمناهم وتخيلهم التشيع، فالديني والسياسي ممتزجان بشكل كامل في الأدبيات المذهبية.

النسق الأسطوري بين الولي والنبي:
يرى هنري كوربان في كتابه الإسلام الإيراني، أن هناك إنفصالاً ما بين الخلافة التاريخية والولاية أو الإمامة الشيعية، بمعنى، أن علياً بن أبي طالب، على مستوى الواقع التاريخي الفعلي، لا يتعدى كونه الخليفة الرابع بعد النبي، ولكنه في العالم الموازي للتشيع هو الإمام الأول، فعلي في عالم الأفكار المثالية الدينية هو قمة الهرم الإيماني، زعيم عالم الأولياء، أي ليس كونه خليفة حوله هذا لإمام، ولكن العكس لكونه إماما وجب أن يكون خليفة. وتبعاً للفكر الشيعي فإن الأئمة لم يصبحوا أئمة لأنهم من آل البيت، بل أنهم أصبحوا من آل البيت لأنهم أئمة، فالسلالة المصطفاه إلهياً وهي الأكثر نقاءاً وسمواً، أصبحت كذلك لأن منهم الأئمة، فالإمامة محددة من قبل الله قبل خلق الخلق، بل بسببها كان الخلق، لذا تم تحديد وجودهم التارخي في آل البيت، ووجب إتباعهم الديني والسياسي، فدائماً هناك عالم موازي، تاريخاً داخلي، خارج عن إطار المحسوس التارخي، لا يدركه إلا أصحابه ومتبعيهم، تلك التبعية التي تشكلت فيما بعد في الفقهاء أصحاب الوصاية والولاية الجديدة في المذهب الشيعي.
ومن هنا يمكن ملاحظة طبيعة النسق الأسطوري الحاكم لمفهوم الولاية، وهو مرتكز على فكرة الظاهر والباطن، أي توازي العوالم، فالتاريخ في الفكر الشيعي هو التجلي الظاهري لعمق الفكرة الدينية المثالية، ولكن هذا العمق الفكري لن يُدرك إلا بواسطة الظاهر التارخي، أي أن لكل ظاهر باطن يُفسره ويُفهم من خلاله، ولكل باطن تجلِ هو الظاهر في شكله، وسأحاول توضيح هذه الفكرة أكثر من خلال العلاقة بين الولاية والنبوة.
في المذهب الشيعي، الولاية تمثل الوجه الخفي الحقيقي للنبوة، بمعنى أن كل نبي ولي ولكن ليس كل ولي نبي، فالأئمة مثلاً ليسوا أنبياء، ولكنهم أولياء، وهذا لا يُنقص من مكانتهم المقدسة شيئاً، فالنبي قد أُرسِل من قبل الله سبحانه للقيام بدور تجاه التنزيل المقدس أو القرآن الكريم، هذا دوره كنبي على المستوى التاريخي، ولكن يتبقى دوره كولي، وهو تأويل التنزيل القرآني، وإيصال معناه الحقيقي إلى الخلق، ذلك المعنى لن يفهمه غيره، ولن يدركه سواه، بهبة لدُنّية إلهية.هذا من جانب، ومن أخر دور علي بن أبي طالب في المذهب الشيعي، في هذا العالم الموازي، هو دور الولي، فعلي هو باطن الولاية للنبي، وهو الوارث الوحيد للعالم الإلهي والهبة المقدسة من قِبَّل الله سبحانة، فمكانته في عالم الولاية لا تقل مكانة عن النبوة، بل بالعكس هو باطن النبوة وعمقها. فقد ورد مثلاً في أدبيات التشيع، أن النبي في رحلة المعراج، رأى مكتوب على باب الجنة (علي ولي الله)، وحينما سُئل النبي عن حديثه مع الله في حضرته، أجاب أنه كان يتحدث بحديث علي، وكذلك قول الرسول لعلي : (أنا خاتم النبيين وأنت يا علي خاتم الوصيين إلى يوم الدين)، وفي حديثه إلى عمار بن ياسر: (إن سلك الناس كلهم وادياً وسلك علي وادياً، فأسلك وادياً سلكه علي، فإن طاعة علي من طاعتي، وطاعتي من طاعة الله)، فالعلاقة بين الله سبحانه والنبي وعلي، علاقة تسلسل للمقدس، فعلي هو من سينوب بمقام النبوة والوصاية بعد وفاة النبي، بمعنى أكثر تعقيداً، علي يمثل عمق فكرة النبوة وليس فقط الموصى له، أو الإمام القائم، وهذا ما قد يُفسر لنا بعضاً من أسباب تقديس الأولياء أو الأئمة.
وقد نجد في (كوزمولوجية ـ بداية الخلق) الفكر الشيعي ما يُدّعم هذه الفكرة، فقد ورد أن نور الأربعة عشر معصوماً ـ الإثنا عشر إماماً وفاطمة والنبي ـ قد إنبثق فيوضاً من نور الله، كأنهم أشعة نور الشمس بالنسبة للشمس، حيث يحيا المعصومون أسفل العرش الإلهي، ومن ثَمّ يُحدِث الوجود، ويخلق الله من نورهم العالم. فهم تجليات لنور الله، وهم أول من رأوه وعرفوه، وأول خلقه، وأصل الكون، فنور الأولياء موجود قبل خلق البشرية، وآدم مخلوق من دمج هذا النور العلوي بالطين، وسيتوارث الأنبياء هذا النور من نبي لنبي وصولاً إلى النبي والأولياء من بعده وهم الأئمة، ففي حديث شيعي منسوب للنبي : (كنا أنا وعلي أمام الله بنور واحد، هو نفسه، قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف سنة)، ففكرة الظاهر والباطن قد نجد تبريرها من خلال فكرة النور، فالنبي وعلي من أصل واحد ومضمون خَلقِي متماثل.
وتمتد هذه الفكرة إلى بقية الأئمة بعد علي، فرغم الفناء التاريخي الذي حدث بموت الأئمة، إلا أن هذا الموت لا يمثل قيمة في الفكر الشيعي، فالأئمة مخلدون قبل الخلق، وسوف يعودون ثانية في مرحلة الرجعة مع عودة المهدي من غيبته، فمثلاً يرد في أدعية الزيارة التي تتم سنوياً في ذكرى مقتل الحسين، يرد حديثاً منسوب إلى الإمام (جعفر الصادق): (من زار قبر الحسين كمن زار الله عز وجل في عرشه)، ولهذا الكلام تفسيره في المذهب، فالحسين بوصفه ولي، وليس فقط إمام، مخلوق قبل الخلق، نوره من الله وقائم أسفل العرش، ثم يرد أنه بعد موت الحسين صعد نوره ثانيةً إلى السماء، أي عاد إلى أصله النوراني الأول، وبالتالي فإن زيارة قبره، إشارة إلى أصله في السماء، وكذلك يرد في أدعية يوم الأربعين : (كنتَ ـ يا حسين ـ نوراً في الأصلاب الشامخة، والأرحام الطاهرة)، أي تحقيقاً لفكرة إنتقال نور الأئمة من جيل لجيل وصولاً للتجسيد التاريخي لهم في شخصيات آل البيت.وهذا يُحيلنا إلى فكرة أخرى، وهي أن علاقة الظاهر بالباطن تتعدى النبي والولي، لتتمثل ثانية في شخصيات الأئمة، بمعنى أن شخصيات الأئمة التاريخية لا تمثل مطلقاً الولاية المطلقة لهم، وإنما فقط تُجسدها، لذا فإن موتهم ليس كاملاً أو حقيقياً في الفكر الشيعي، بل لا يتعدى فقط زوال للحالة المجسدة لهم، ولكنهم باقون دائماً كأولياء، والدليل عودة المهدي المنتظر بعد ذلك في نهاية العالم ليقيم دولة الله على أرضه، فسر بقاءه يرجع إلى كونه ولي من أولياءه وليس مجرد إمام تنتهي فترته بوجوده التاريخي، فالنسق الأسطوري الحكام لعلاقة الولاية بالتاريخ تتمحور حول فكرة الظاهر والباطن، والعلاقة الجدلية بينهما.ولكن من العناصر المهمة كذلك في مبدأ الولاية، علاقة الولي بالمقدس المباشر، أو القرآن الكريم.

الولاية وتأويل القرآن:
إن القرآن هو كلام الله المباشر لنبيه، وبالتالي يمثل أول تجليات المقدس الموجهه للخلق، ودور النبوة هو نقل هذا الخطاب الإلهي للبشر مباشرة، أي أن مرتكز فكرة النبوة يعتمد على هذه الوظيفة المصطفاة، وإذا كان لا يمكن فصل دور الولاية عن النبوة في الفكر الشيعي، فبالتالي يستحيل تحييد دور الأولياء عن الهدف الأسمى والمثالي للنبي.لذا اعتمد التشيع على منهجية التأويل لتحويل الأولياء أو الأئمة على المستوى التاريخي، إلى متلقين مباشرين للقرآن كذلك، أي محاولة إغلاق النسق الأسطوري على أشخاص مقدسين في عالم المثال، أو العالم الموازي في التشيع. فالتأويل في المذهب الشيعي لا يعني مطلقاً لوي عنق الحقيقة وإنما يعني بشكل مباشر إرجاع الفكرة لأصلها، أي الوصول للحقيقة في عمقها، حتى وإن بدا لنا هذا تعسفياً كما سنرى، إلا أن له ما يبرره في الفكر الفلسفي المذهبي.
فمثلاً يرد في تأويل آية الأمانة، في الآية: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، واشفقن منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا) (سورة الأحزاب: 72)، رغم الخلاف التفسيري على مفهوم الأمانة التي أرادها النص القرآني، ولكن في الفكر الشيعي تم الإتفاق على كون الأمانة هي الولاية، أي الإيمان بالولاية وليست الولاية في ذاتها، التصديق بظاهر النبوة، وعمق الرسالة وهي الولاية وتجسيدهم الإمامي.واعتماد الولاية بوصفها الأمانة السابقة لوجود آدم، قبل خلق الوجود.
وفي تأويل الآية التي تقول: (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) (سورة التكاثر: 8)، ورد في تأويل منسوب للإمام الصادق لهذه الآية: quot;نحن النعيم، الذي أنعم الله به على العبادquot;، أي الأئمة، وفي الأية: (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد)، ورد في حديث منسوب للنبي: quot;أنت الهادي يا علي، يهتدي بك المهتدون بعديquot;. فعلي هو الهادي وهو الأمانة، وهو النعيم، فهو باطن النبوة، وظاهر الولاية بعد النبوة.ولكن الأمر يوحي بفكرة هامة أخرى.
من الملاحظ، أن الإمام ليس فحسب القائم بالقرآن، بل فكرة الإمام أو الإمامة هي نفسها المحتوى الباطني للتفسير المثالي الشيعي للقرآن، بمعنى أن خلال النماذج السابقة وإن كان الأمر يحتاج إلى مزيد من النماذج والدراسة، ولكن من الممكن الإشارة إلى هذه الفكرة، أن الإمام هو هدف تفسير القرآن، وهو عمقه.والدليل على تلك الإشارة، ما ورد أنه منسوب للنبي في كتب التشيع، خاصة كتاب (التفسير بالمأثور، لإحسان الأمين، نقلاً عن بحار الأنوار): (علي مع القرآن، والقرآن مع علي لن يفترقا حتى يردا إلى الحوض).أي أن هناك إتصال سرمدياً ما بين القرآن وعلي، فعلي هو باطن القرآن، أي أن الولاية تتجاوز الحدود المعرفية المتاحة، لتصل إلى عمق المعرفة النبوية، فقد ورد عن الإمام الصادق: quot; إن الله علم نبيه التنزيل، والتأويل، فعلمه رسول الله علياً، ولهذا قال علي ما نزلت آية إلا وأنا علمت فيمن نزلت وأين، فإن ربي وهب لي قلباً عقلاً ولساناً طلقاً quot;.
واستمرت تلك الفكرة متمركزة في العقل الشيعي فيما يخص بقية الأئمة، وصولاً للمهدي المنتظر، لتكتمل فكرة الدولة الدينية القادمة في نهاية التاريخ، أي إمتداد للنسق الأسطوري الحاكم للعالم الموازي لمفهوم الولاية، فالولاية من هذه الزاوية تستدعي العصمة المقدسة للأولياء، المجسدين في ظاهر الأئمة، وبالتالي شكل غياب المهدي، أو إنقطاع تسلسل الإمامة، إشكالية حقيقية في مفهوم الدولة الدينية الشيعية، تحديداً في مفهوم الوصاية المطلقة للولي الإمام، فكانت الفقهية هي الحل الديني الأخر، وهذه مرحلة ثانية في الوعي الشيعي، سنرصدها في المقال القادم.

[email protected]