quot;هؤلاء الحمقى قد حولوا الإله إلى وثن يُعبَدquot; (نيتشه: أفول الأصنام)
سأنبئكم بأسباب إلهام هذا المقال، في أحد مقاهي القاهرة التي أعشقها هي ومقاهيها، وأشعر بغربة حقيقية لو ساقتني الأقدار خارجها، في أجواء من الصخب والدخان حيث اعتدنا أنا وأستاذي ألاّ نختلف لحد الصدام وألا نتفق لحدود الفراق، طارحين عذابات السنين وسنوات العذاب التي تفرق بين أعمارانا جانباً.
طرح علي أستاذي حكاية تراثية من الأدب الشعبي الإيراني الذي رغم تخصصي في هذا المجال لم أقرأ عنها أو مثلها شيئاً، وقرأناها سوياً من كتاب (يك سال ميان ايرانيان ـ عام بين الإيرانيين) لإدوارد براون، الباحث الإنجليزي الفذ في مجال الإيرانيات، كان قد دون حكايته تلك كيفما رواها له أحد العجائز في إيران في معرض حديث براون عن الفكر المذهبي في تجلياته الشعبية، فدعني أطيل عليكم وأخبركم بفحواها، محذراً ما قد تجدونه فيها من تجاوز يصدم وعينا الإيماني، ولكن الأمر لا يتعدى مجرد حكاية.
الحكاية تبدأ برجل يسير في الصحراء فلمح من بعيد ملامح أخر أشعث الرأس رث الثياب طويل اللحية، منظرة أخاف الرجل وما زاده خوفاً بالإضافة إلى الصحراء، حينما أقترب الأخر قليلاً فوجده يحمل بلطة (فأساً صغيراً)، وعصا غليظة، فرآه بطل حكاياتنا مثل الشيطان، فتملك الرعب من بطلنا وقرر الهرب ولكن لا مكان فنحن في العدم في صحراء حيث لا بداية لها ولا نهاية، إلى أن هداه بصره إلى شجرة في منتصف هذا العدم، فجرى إليها وتسلق فوقها في إنتظار عبور من ظنه شيطاناً.
وكانت المفاجأة فلقد جلس هذا العفريت يتظل بظل نفس الشجرة، وحينما شاهده البطل رآه درويشاً صوفياً متهالك، فهدأت نفسه قليلاً ولكن شيئاً ما حدّثه أن يظل ساكناً، ويرى ماذا قد يصنع الشيخ الدرويش في هذا العدم الصحراوي. المهم أخرج الدرويش من جعبته خمسة أصنام، ووضعهم أمامه، ووجه حديثه للأول، قائلاً أنت إذاً (عمر) ـ قاصداً عمر بن الخطاب ـ كيف تتسبب في ضياع الولاية من علي؟! ـ يقصد تبعاً لبعض الرؤى الشيعية أن الخليفة الأحق هو علي بن أبي طالب ولكنه الخلفاء الثلاثة قد اغتصبوها منه ـ فهل لك إجابة لا بالطبع! إذاً فنهايتك هي الموت، وحطمه بعصاه وبلطته. ثم تحدث مع الصنم الثاني قائلاً وأنت إذاً (أبو بكر)، فرغم كونك شيخاً مسناً إلا أنك كنت أول من تجاوزت في حق الإمام علي، وأول من تسبب في عذابه، أجب..!، إذاً ليس لديك إجابه!..، فمت إذاً، وقصمه إلى نصفين. وجاء دور الثالث وكانت مفاجأة لي أيضاً، كما تفاجأ بطل الحكاية، الثالث هو علي ذاته، فعاتبه الدرويش بقسوة ولامه على عجزه عن الحفاظ بما ورثه إياه رسول الله، فقد أورثه الولاية والخلافة من بعده ـ كما يرد في المذهب الشيعي ـ لذا فإنه يستحق مصير صاحبيه وحطمه تحطيماً. التمثال الرابع كان لرسول الله ذاته، فحاسبه شديد الحساب، فكيف لنبي اصطفاه الله بعلم الغيب يعلم ما سيحدث في أمته من مظالم وحروب يترك الأمر هكذا دون أن يولي علي في حياته!!، فيُخرس ألسنة الطامعين، ويُقيم العدل في الأمة، فحطم صنم النبي كما سابيقه. إلى هنا والرجل ما زال ساكناً لم يتحرك فوق الشجرة، حتى حدثت الفاجعة، فلم يتبق سوى تمثال واحد فدار بخلده إذاً من تبقى لدى هذا الكافر حتى يحطمه قاصداً الدرويش، هل من الممكن أن يكون...؟! مستحيل!!، ولكن خاب ظنه، فقد كان هو بالفعل، الدرويش يتحدث مع الصنم الخامس والأخير، بوصفه الله، ـ لابد ألا ننسى أننا أمام حكاية مجرد حكاية ـ إذاً فالله سبحانه هو من تبقى لدى الدرويش، وبالفعل بدأ بالحديث إليه قائلاً، كيف يا قادر يا عزيز، يا علام الغيوب تترك هذا الظلم المتفشي في العالم، كيف تترك أوصيائك وأولايئك وأئمتك المطهرون يظلمون، وينحرون، كلهم ظُلموا وأنت لم تحاسب الظالمين، لا إنني سأحطمك دون حتى إنتظار إجابة منك، وهم ليرفع عصاه ليحطمه، هنا ارتجف الكامن فوق الشجرة خوفاً من فعل الدرويش، وصاح بأعلى صوته، كف يدك!!، كيف تجرؤ على تحطيم الله هكذا!!، فقد حطمت علي ومحمد اتجرأت على اللهّّ!!... كف وإلا انطبقت السماء على الأرض. وهنا ارتجف الدرويش، وسقطت العصا من يده، وسقط هو معها ميتاً من الخوف، ظناً منه أن مخاطبه أحد من السماء، ولم يتمكن من تحطيم التمثال الأخير. فهبط بطلنا على الأرض ونظر بإجلال إلى الصنم الأخير، ثم أخذ يفتش جعبة الدرويش فوجد كنوز وجواهر عديدة، فسجد لله فرحاً وجاءت سجدة مصادفتاً أمام التمثال، قائلاً أحمدك يا رب، لقد علمت بحالي الفقير فرزقتني جزاءاً لي لدفاعي عنك... هنا تنتهي الحكاية، ولكن الراوي يُكمل لبراون أنه يعلم هذا الرجل، فقد صار من أغنى أغنياء البلدة، بل حاكمها الوحيد، وما زال محتفظاً بالصنم الأخير.
وصمت استاذي وتركني في تأمل، فبحكم التخصص أعلم جيداً كيفية تحليل البنية والرمز في تلك الحكاية السابقة، وذلك طبقاً كذلك للظروف البيئية والتاريخية المنتجة للنص، وإن كان يستحيل تحديد لحظة تكوين نص شعبي، فلحظة التدوين هي الفيصل، فهل كان براون يرمي إلى شئ؟!، من الممكن!، هل الراوي للحكاية حمّل النص ما لا يحتمل، احتمال قائم!!، ولكن من المؤكد أن التحليل الرمزي للحكايات الشعبية يخرجها من التقييم الاخلاقي أو الديني، فهذا إنتاج شعب بأكمله، ولا يوجد تراث في العالم لا يحمل بعض التجاوزات الصادمه للوعي المجتمعي المؤدلج حسب المرحلة التاريخية، فالتعبير الشعبي حرية وسياق منفصل تماماً عن كل الأيدلوجية الدينية والأخلاقية، ولا يخضع لمعيارها. ولكن ما دار بفكري ورأيت أن أشارككم فيه تساؤل بسيط، لو دونت تلك الحكاية الآن في فترة الجمهورية الإسلامية، فكيف يمكن فك شقراتها ورموزها؟! رغم أني ضد التعسف في التأويل ولكني أطرح عليكم ما توصلت إليه.
البنية الفكرية الأساسية في الحكاية هي فكرة الحقيقة المطلقة، أو توهم الحقيقة المطلقة، فالدرويش يُجسد أعمق الأفكار الصوفية والإنسانية بشكل عام، فالتصوف الفلسفي في عمقه يؤكد على أن معرفة الله لا تحتاج إلى دليل أو وساطة ـ وذلك بعيداً عن التصوف الحركي أو الجماعات الصوفية ـ أي أن الإنسان ليس في احتياج إلى نبي أو خليفة أو ولي أو فقيه، يُجسِد له الله كيف شاء والمطلوب اتباعه، فالحقيقة المطلقة ليست ملكاً لأحد، ولكن كلاً يرى الله كيف شاء، ورغم الخلاف العقائدي مع تلك الفكرة، إلا أن لها تأثيرا في العديد من الفلسفات الإنسانية عامة. هذا ما حاول الدرويش أن يفعله بشكل رمزي في الحكاية، فالقضية الخلافية والتأسيسية في التشيع هي ولاية علي بن أبي طالب التي أخذت منه عنوة كما يرى المذهب وبالتالي ضاعت من كل أحفاده من بعده، فتكون عالم مواز في الفكر الشيعي هو عالم الإمامة، وسلالة الأئمة التي تبدأ بعلي وزادها تأججاً مقتل الحسين، ثم مسيرة مأساوية يقصها التشيع علينا على مراحل تاريخ الأئمة، إنتظاراً للمهدي المنتظر، الذي سيجدد الأحلام ويُعيد بناء ما تخيله المذهب الشيعي الحق. فالدرويش قرر أن يحاسب الجميع من بداية الأزمة، حتى علي ذاته، فإن كانت الخلافة من حقه فعلاً فلما لم يطالب بها، وإن كان النبي أوصى له فلما لم يوليه في حياته وتنتهي الأزمة، وإن كان الله قد أقر بذلك وأرادة فلماذا لم تنفذ إرادته، إذاً فكل ذلك كذب من وجهة نظر الدرويش، مجرد أصنام خلقناها بأيدينا لنعبدها من دون الله، وهم ظنناه حقيقة، والواجب هو تحطيم الوثن حتى لا يصبح عائقاً في سبيل المعرفة، فالمعتقد الإيماني ينسج خيلاته منفصلاً عن المعتقد الديني ذاته، وبالتدريخ تتحول تلك الخيالات إلى فكرة راسخة في العقل الجمعي بشكل يستتبع تحطيمه لا مناقشته. هذه وجهة نظري في رؤية الدرويش للموضوع.
إلا أن الغريب أن هناك ما يكمن في عقل الشيخ منعه من البحث عن مصدر الصوت قبل تحطيم الصنم الأخير، فمات مصدوماً في وعيه، فرغم محاولاته التي بدت مسا من الجنون من وجهة نظر البطل، إلا أن الدرويش لم يحطم الصنم داخله هو، فلو افترضنا أن البطل قد تحدث في أي مرحلة من مراحل تكسير الأصنام الأربعة، فمن المؤكد أن ردة فعل الدرويش ستكون مماثلة. وما يعنينا الأن هو بطل قصتنا الذي استفاد من كل ما رآه، ووظفه لصالحة، فما سر صمته على تحطيم تمثال علي والنبي مثلاً ولكن من وجهة نظري أنه رأى أن ذلك في مصلحته، فبتحطيم رموز الدين ستخلو الساحة من الرموز المقدسة على كل السياقات الإسلامية السني والشيعي، ولكن بتحطيم الصنم الذي سماه الدرويش الله سوف تنهار الفكرة من أساسها، لذا وبدافع من إيمان حقيقي بالتمثال، أي الله كما يراه، دافع عنه، ثم ادعى ملكيته له. واستولى على الكنز.
الكنز في الحكايات الشعبية والدينية تحديدياً له تأويلات عدة، فيشير أحياناً إلى المعرفة أو الحقيقة أو الإيمان على المستوى الرمزي، فالرجل قد استولى على الحقيقة ظناً منه أنها الحق، فالله قد منحه إياها جزاءاً له عن دفاعه عنه، فقد وجد الله في تيه الصحراء بالمصادفة وعاد ليملك العالم من خلاله ويحكم البلدة، أعلن نفسه المدافع عن الله المنقذ له من الضياع، أي المنقذ لحقيقته من الزوال، ومن يملك الكنز والحقيقة فله الأحقية في قيادة الدنيا، من وجهة نظره على الأقل. فالسماء سوف تنطبق على الأرض لو تحطمت رؤيته هو وهو فقط لله.
التراث الشعبي بطيعته قابل للتأويل المتعدد في كل الأزمان، والحكاية السابقة على رغم من بنيتها الحكائية الضعيفة، ولكنها ذات تتابع في بنية الرمز متقنة للغاية، فجميعنا قد تنطبق عليه بعض هذه التأويلات، فأحياناً ما نؤمن بإيمان الأخرين، ونسير خلف من حول الله إلى صنم يعبد، وهذا ينطبق بشكل أو بأخر على الشعب الإيراني وغيره من الشعوب التي صدقت أن من جاءها بتمثال الله وبكنزه قد جاءها بالحقيقة الواجب اتباعها، ولِما فكرة التبعية من الأساس، هل لابد وأن يتكون العالم من تابع ومتبوع؟!، فلو ظل بطل الحكاية في خوفه لتحطم الصنم الأخيرولم يدعى أحقيته في امتلاك الحقيقة.
فمبدأ ولاية الفقيه أو غيرها من الأفكار في واقعنا التاريخي والمعاصر التي تدعى أنها امتلكت الحقيقة تحمل في ذاتها عمق فكرة بطل القصة، هؤلاء اللذين ادعوا امتلاك الوصاية، وأنهم ظل من الله، والمدافعين عن دولته، المحافظين على كنزه، اللذين أخافوا الدرويش حتى الموت بوهم الدرويش ذاته في وعدم قناعته الكاملة بما يفعل، وقسّموا العالم إلى ملهمين ومنصتين، فمن مصلحتهم أن تتحطم بقية الرموز حتى يتبقى من يدعوا أنهم يتحدثون بإسمه. ولكن دائماً الراوي هو الشاهد الوحيد الذي يحكي لنا أصل الأشخاص والأفكار.
أعلم أن هناك العديد سوف يختلفون معي في محاولة فهمي للحكاية وتأويلي لرموزها، ولكن الفكرة مطروحة للنقاش، فالحكاية تصلح للتأويل في كل السياقات الاجتماعية والفكرية، وعلى الجميع أن يطرح رؤيته كما يراها.
أكاديمي مصري
[email protected]
التعليقات