يمثل مقتل الحسين بن علي في كربلاء مفصلية حرجة في الرؤية الإسلامية على مستوى البنية التاريخية والبناء المذهبي الديني، في محاولة من العقل الإيماني ـ بشقيه الأسطوري والديني ـ لترسيخ حزمة من القيم والأفكار مجسدة في حكاية مقتل الحسين، وما تلا ذلك من طقوس عاشورائية تعيد إنتاج الحدث الحكائي كيفيما استقر في الوجدان الديني بعيداً عن الواقع التاريخي، إن كان هناك ثمّة تاريخ موازي يمكن الحديث عنه، فالحقيقة أن الحكاية هي التاريخ الوحيد القابل للتحليل .وبالتالي تعمد هذه الدراسة إلى رصد البنية المكونة لحكاية الحسين كبطل ديني أسطوري متمتع بكل صفات البطولة الشعبية من حيث العناصر والتيمات الأولى المكونة.
أولاً: النص التاريخي بداية تدوين الأسطورة:
تنحصر الإشكالية الرئيسية للنص التاريخي في كونه إعادة صياغة للكيفية التي تم بها تلقي حدث ما، أي محاولة لتثبيت الحكي بالتدوين، فسواءاً كانت الحكايات التي دونها التاريخ طبيعية أو فوق طبيعية، فهدفه النهائي هو نقل ما قد يكون حدث بالفعل على الأقل من وجهة نظر الراوي للنص التاريخي بصرف النظر عن احتواء النص ذاته لكل ملامح وأصول القصص الخرافية.وهذا ما نراه واضحاً في حكاية الحسين التاريخية، التي اعتمدت على حكايات الخوارق ختى تعطي مبرراً للحدث ذاته، بحيث لا يصلح فهم المعلومة التاريخية دون سياق حكائي يعمل كألة تبرير لها.
إذا تتبعنا التسلسل التاريخي للتدوين، نجد ان أول ذكر لحادثة كربلاء ومقتل الحسين في كتاب (الإمامة والسياسة لإبن قتيبة ت:276هـ)، بشكل مختصر جداً، ولكن النص التأسيسي الذي احتوى الموضوع والأهم على الإطلاق هو (تاريخ الطبري، تاريخ الرسل والملوك، أملى تارخيه :303 هـ) والذي اعتمد بشكل أساسي كما زعم على كتابات (لوط بن يحي ين مخنف، ت :132هـ)، والذي ضاعت أغلب كتبه بواسطة الحكومة الأموية لإشتهاره بالميول العلوية (مناصرة آل البيت)، أي بعد ما يقرب من مائتي عام من موت (بن مخنف)، وبعد ما يقرب من ثلاثمائة عام من مقتل الحسين ذاته الذي قُتل عام (62هـ)، وهذا ما ثبت بعد ذلك في بقية الكتب التاريخية مثل (البداية والنهاية لإبن كثير ت:774 هـ)و(الكامل في التاريخ لإبن الأثير ت :629هـ)(وتاريخ روضة الصفا، وهو من كتب التاريخ الموسوعي بالفارسية، لمؤلفه مير خواند ت:903 هـ)، وجميعهم قد اعترف أن الاعتماد الأصيل فيما يخص حادثة كربلاء أو غيرها من تاريخ الصحابة كان على تاريخ الطبري، ورغم الخلاف المذهبي والتاريخي بين كل هؤلاء التاريخيين و(أبي مخنف) إلا إن إنعدام المصادر التاريخية الأخرى جعلته هو المصدر الوحيد كما أورده الطبري، رغم المسافة التاريخية التي تفرق بين الحادثة وتاريخ تدوينها بما سمح بتدخل الطابع الحكائي الشعبي في النص التاريخي، فإشكالية التاريخ تجعله مصدر للأسطورة ومثّبت لها، خاصة عندما يتعلق الأمر بشخصية ذات قداسة تارخية ومذهبية دينية مثل الحسين بن علي.
يعتمد النص التاريخي على نمط سردي حكائي يؤسس للطابع الملحمي للحكاية الحسينية، فيبدأ بقصة نبوءة النبي بمقتل الحسين في منام رأى فيه أن حزءاً من جسده مقطوع في كربلاء، ثم رواية أخرى تحكي أن النبي قد ذهب إلى كربلاء ليلاً وعاد بحفنة رمال دامية من دم الحسين الذي سوف يُقتل، وفي رواية أخرى أن ملاك البحار قد جاء للنبي وقال :quot; يا أهل الدنيا فلتقيموا المأتم على مقتل ابن المصطفىquot;.فالنص التاريخي قد إمتلأ بالعديد من الحكايات الأسطورية خاصة نص الطبري، ورغم رفض بن كثير للكثير منها معتبراً أنها ذات أصول شيعية ـ مع الإلتفات إلى حنبلية بن كثير المتشددة ـ إلا أنه لم يجد لها بديلاً وإن كان حاول أن يوردها في معزل عن الحكاية التاريخية ذاتها.
فرغم أن الحسين قد خرج من المدينة لمكة للكوفة سعياً وراء مناصرته في وجهة نظره ضد الحكم الأموي ليزيد بن معاوية الذي رآه ظالماً غاشماً، إلا أن النص التاريخي يؤكد على الطابع القدري للحادثة وفي موقف الحسين، بحيث اعتبر أن الحسين كان يعلم بمقتله وتخلي أهل الكوفة عنه إلا أنه دافع عن الحق فيما يرى، حتى أن التاريخ يورد رواية الشاعر الفرزدق حين قابل الحسين مصادفة في طريقه للكوفة (قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية)، في محاولة لثنيه عن رحلته إلا أن الحسين قد صمم على ما يراه، فذهب بعدد يصل إلى 72 فرداً أغلبهم نساء وواجه جيش قوامه أربعة آلاف هو الجيش الأموي بقيادة (عمر بن سعد بن أبي وقاص)وبالفعل حوصر وقُتل وقُطعت رأسه (في العاشر من محرم)، وحُملت مع قافلة السبايا أو النساء المتبقيات من المعركة إلى (عبيد الله بن زياد بن أبي سفيان) والي الكوفة، ثم إلى (يزيد بن معاوية ) في دمشق، ثم رحلة قافلة السبايا، والتاريخ لا يؤكد وجود واحد للرأس الحسيني، فبعض الروايات تؤكد عودتها لكربلاء لتدفن مع الجسد، وروايات تصل بها للقاهرة في العهد الفاطمي، وروايات أنها بالمدينة أو استقرت في دمشق، ولم يحسم تاريخياً مكان رأس الحسين، إلا أنها تحولت إلى رمز لكل مقاومة تاريخية، بل كانت كربلاء ذاتها وما نتج عنها هي بداية النمو السياسي لشيعة آل البيت، والتطور الفلسفي والفكري للمذهب، وبداية ظهور فكرة الإمامة وفكرة الرجعة للأئمة بعد عودة المهدي المنتظر، فكربلاء هي الحادثة التي صنعت أهم الاحداث السياسية في التاريخ الإسلامي، وخلقت البطل الديني الشعبي في الوجدان الإسلامي في سياق موازي، فالحسين بن علي شخصية ذات ثلاث وجوه التاريخي ـ والشعبي الملحمي ـوالمذهبي الديني، بشكل ممتزج يستحيل الفصل بينهم، فالتاريخ قد احتوى الحكاية الشعبية، وكلاهما شكل المعتقد المذهبي، مما حتم الإنتقال إلى دراسة العقل الملحمي الشعبي والمذهبي وتطور بنية الحكي داخله.
ثانياً: البناء الملحمي لمقتل الحسين:
الحسين في هذه المرحلة يتسم بكل سمات البطل الملحمي فقد أوردت كتب التشيع العربية في البداية مثل (بحار الانوار، وزاد الميعاد، وقرة العين لمحمد باقر المجلسي)، والفارسية مثل (عجايب ومعجزات شگفت انگيزي از امام حسين، للطباطبائي) أو (عجايب ومعجزات شگفت انگيزي از حضرت علي)، وغيرها الكثير العديد من الروايات المذهبية والحكاية التي إذا تتبعناها سنتمكن من رصد للبناء الملحمي لشخصية الحسين، الذي يعتمد على ثلاث عناصر رئيسية (الثبات (المرحلة الأولى) ـ الرحلة (كربلاء ومقتله) ـ العودة (فكرة الرجعة))، ومن خلال هذه التقسيمات الرئيسية من الممكن تفصيل خطوات التحليل للأتي:
1 ـ التأسيس لبطولة الحسين والنبوءة بمقتله:
يبدأ التأسيس الملحمي للحسين من ميلاد علي بن أبي طالب، فترد الحكايات لتذكر أن أبا طالب قد قابل أحد الرهبان المعمّرين ويُدعى (مثرم)، وأخبره هذا الرجل أنه سوف يلد إمام الزمان وفي لفته أسطورية أتى لأبي طالب بفاكهة من الجنة أكلها وأتى أهل بيته، وكانت في تلك الفاكهة نطفة علي، وحملت أمه به في ليلتها.ويروى كذلك أنه كان لعلي قوى خارقة للعادة، فهو قد تمكن من أن يطير ببساط قد أتى هدية للنبي ويصل لأهل الكهف ويتحدث معهم.وكان فارساً لا يُضاهى وتكفينا ملحمة (علي ورأس الغول حروب علي في اليمن) دليلاً على الدمج بين الإعتقادي والملحمي الأسطوري بشكل واضح.
علي علم بموت الحسين في كربلاء في أكثر من موضع روائي، فالنبوءة هي قدر البطل الذي يعمل على تحقيقة، بل تعدّت النبوءة لمرحلة ما قبل التاريخ مرحلة الأنبياء الأوائل، فكان هبوط آدم في كربلاء، ووسفينة نوح رسيت بكربلاء وعلم هناك بمقتل الحسين الذي سوف يكون. بل ترد بعض الروايات أن هناك إثنا عشر ملاكاً يأتون للنبي على رأسهم ملاك البحار ليخبروه بمقتل الحسين، بل وليُخيروه بين التضحية بولده إبراهيم وبين الحسين، فيختار إبراهيم، وليبقى الحسين رغم كونه مقتولاً ولكن دوره أهم من مجرد القتل، فهو رمز للفداء والحرية والقداسة، أي أن النظرة الملحمية للحسين، حولت التاريخ إلى قدر يصنعه أبطاله بإختيارهم.فالطابع القدري الذي أسس لبنية الحادثة تاريخياً كان هو الركيزة الأساسية للفكر الأسطوري، ولا ندري أيهما أسس للأخر ولكن من المؤكد أن العقل المنتج واحد في كلا السياقين فلا تاريخ بدون حكاية مروية من البداية.
2ـ ميلاد البطل ونشأته:
كان ميلاد الحسين في الكعبة وأشرف عليه 70 ألف ملك وحور عين، وهذا متسقاً مع كون نور الجنة مخلوقة من نور الحسين (مراجعة مقالة المعتقد الإيراني بين الزرادشتية والتشيع، المنشور بجريدة القاهرة، 30/6/2009)، أي الإمتداد الأسطوري للملحمة الحسينية، كما ورد أن رضاعة الحسين لم تكن عادية، بل كان يرضع من أصبع النبي، لإثبات العلاقة المقدسة بين النبي والحسين على مستوى الحكاية، كما كان طعامه وشرابه وملابسه من الجنة يأتي له بها النبي، وفي رواية تؤسس نبوءة الحسين لذاته ورد أنه وهو طفل سمعه أحد الصحابه وهو يقول أنه سوف يُقّتل من ظالمي بني أمية، فتعجب الرجل وحين سأل النبي أخبره أن علم الحسين من علمه، وهذا مما علمه الله إياه.
وحين شب الحسين قليلاً كانت له معجزاته الخاصة، فقد روي أن جاءه رجلاً يخبره أن أمه ماتت ولم تخبره بمكان أموالها وعليه دين، فيذهب الحسين لجثمان الأم ويدعو فتنهض من الموت وتخبره بمكان الأموال ثم تموت ثانية، ورغم أن تلك السمة تتشابه بمعجزات المسيح ولكن السياق مختلف إلى حد ما، بين بطولة المسيح في الرؤيا المسيحية أو الإسلامية له وبين التأسيس الأسطوري للحسين.فالبطل الحسيني قد نشأ بطريقة مختلفة خارقة تمتزج فيها البنية الأسطورية بالبناء الملحمي لشخصية مقدسة تاريخياً.وهنا ننتقل إلى المرحلة الثالثة.
3 ـ رحلة البطل ومقتله (قمة الملحمة):
حينما يقرر الحسين الرحيل بحافذ درامي مركب بين رفضه لفكرة الظلم الأموي ودعوة أهل الكوفة له لمناصرته، يأخذ معه أهله من النساء والأطفال ومنهم (علي زين العابدين) ولده الثاني الذي تبقى بعد المعركة وأخذ قائمة الإمامة في التشيع، قبل رحيله يتجه إلى قبر النبي وينام عنده ويرى في منامه النبي مع مجموعة من الملائكة ترشده إلى طريق الجنة، أي استخدام تيمة الحلم الشعبية في صياغة الرحلة البطولية، ويروى أنه في أثناء رحلته سبقته مجموعة من الملائكة على شكل أحصنة بيضاء صاحبته وصولاً لكربلاء.
ثم تحدث الخلافات بين جيش يزيد والحسين، ويقرروا الهجوم على الحسين وآله، وفي بداية المعركة يتمكن الحسين منفردأ من قتل ألف رجل بقوته الحسدية المهولة، في إشارة من العقل الملحمي للطبيعة المغايرة للحسين، وكذلك الإلحاح على أن الحسين كان قادراً على الفتك بأعداءه ولكنه إختار الشهادة.
وتأكيدأ على تلك الفكرة، يروى أن رئيس الجن الشيعة ومجموعة من الملائكة قد أتت لنصرته في المعركة، ولكنه يرفض هذا تماماً بحجة أنه ذاهب للشهادة وتحمل ذنوب المؤمنين إلى يوم الدين، أي فكرة الفداء الأكبر، وفكرة الجن تلك تمثل تبعاً للمنهج (المورفولوجي ـ كما صاغة فلاديمير بروب في مورفولوجيا الحكاية الخرافية) العناصر المساعدة التي تأتي لنجدة البطل أو تحويل مساره، ودور البطل القبول أو الرفض في هذه الحالة كما فعل الحسين.
وفي أثناء المعركة يُقتل (علي الأكبر وعلي الأصغر وكان رضيعاً) إبنيّ الحسين في مشاهد ملحمية مؤثرةة للغاية نجدها واضحة في أشعار العزاء الحسيني التي تنشد في الطقوس العاشورائية.ثم يٌقتل الحسين وتُقطع رأسه بواسطة رجل يدعى (الشمر بن ذي الجوشن) الذي تلح الورايات أنه قد تحول إلى كلب أسود هائم في صحراء كربلاء بعد ذلك.ثم تصعد دماء الحسين على شكل نور إلى السماء، أي الربط بين الرمز الأسطوري المقدس والطابع البطولي للحسين، فقد نفذ الحسين قدره وحقق النبوءة وعليه أن يعود لأصله السماوي.
4ـ إنهيار العالم في إنتظار عودة البطل:
للعودة هنا بعدان، بعد حكائي ملحمي ويتجسد في أن أثناء رحلة قافلة السبايا إلى دمشق لدى يزيد كانت رأس الحسين تتلو آيات القرآن، وكانت هناك سحابة تظلل قافلة السبايا لدى عودتها من دمشق للمدينة، وحدثت العديد من المظاهر الكونية مثل إمّطار السماء دماً، وهذه سمة ملحمية متكررة في العديد من الملاحم في منطقة العراق وفارس مثلما حدث لدى اختفاء دموزي في الملحمة السومرية، ولدى مقتل (سياوش بن كيكاوس) في الملحمة الإيرانية الفارسية الذي قُتل غدراً على يد أعداء إيران وكان بطلاً قومياً فأمطرت السماء دماً حزناً عليه، أي أن تلك التيمة الأسطورية متكررة في الواقع الملحمي لتلك المنطقة المتوحدة ثقافياً. وكذلك كسوف الشمس، وتوقف النساء عن الحيض لعام كامل دلالة على زوال الحياة من العالم بموت الحسين.وتستمر الفكرة إلى أن روي أن الحسين صار ملِكّاً لعالم البرزخ السماوي، أي العودة للأصول.
وفي بعد أخر تمتد الصياغة الملحمية للحسين في السياق المذهبي الشيعي إلى رجعة الحسين مع عودة المهدي من الغيبة، فالرجعة تخص الأئمة ومنهم الحسين(مقالة المهدي المنتظر، القاهرة، 9/6/2009)، أي عودته ثانية لينتقم من كل اللذين ظلموه بكربلاء اللذين سيعودون معه، لتكتمل ملحمة الحسين بنهاية العالم وقيام القيامة، بعد تحقيق كل الإنتقامات.فالضياغة التاريخية والمذهبية لشخصية الحسين بن علي اعتمدت على البناء الحكائي الشعبي، ذا الرمز الأسطوري، مما يشكل اعتقاد أصيل يصعب معه فك الإرتباط بين الثلاة عناصر، خاصة أن القضية لم تنتهي عند تلك المرحلة، فهناك سيل من الطقوس السنوية التي تُقام في كل بلدان التشيع خاصة إيران إحياءاً لذكرى الحسين ومقتله، مما أعطى مزيداً من الرمزية لنفس الحادث، وأصبحت الفكرة مكتملة على مستوى النص والطقس، كما أن الصلاة في المذهب الشيعي لا تصح إلا على المسجدة المأخوذة من تراب كربلاء، أي أن الطقوس بمستوياتها الدينية والشعبية قد احتوت رمز مقتل الحسين بشكل كامل.
ثالثا: الأصل الإيراني لطقوس العزاء الحسيني:
في بداية كل عام هجري منذ الأول من محرم إلى العاشر منه، تشتعل إيران والعراق وغيرها من البلدان ذات الأقلية أو الأغلبية الشيعية بإحياء ذكرى الحسين وآله، ولكن أشد الطقوس وضوحاً هي التي تُقام في إيران، وأهم تلك الطقوس السنوية شيئان، مسرح العزاء، ومسيرة العزاء.
1ـ الطابع الكرنفالي في المسرح العزائي (الشبيه الحسيني):
تقام تلك المسرحيات في الشوراع والميادين أو الحسينيات وهي الأماكن المخصصة لذلك الطقس تحديداً وتكون تابعة للدولة أو لجمعيات أهلية، بأدوات بسيطة وأزياء رمزية تحكي نفس الملحمة التي سردناها سابقاً، ويطلق عليها الشبيه وبالفارسية (شبيه بازي: مسرحية الشبيه)، تبدأ بطبول في البداية إشارة إلى بداية المعركة، بني أمية بملابس حمراء وصفراء وآل الحسين بملابس حضراء وسوداء وبيضاء إشارة للحزن والنقاء.ومجموعة من الممثلين المتطوعين أحياناً أو المعينين لهذه الوظيفة التمثيلية من قبل المؤسسات الحكومية والأهلية الداعمة لإحتفالات عاشوراء.
الملفت في هذه المسرحيات ليس كل ما سبق وإنما حالة التوحد التي تُصيب المتفرجين بكل تباينهم الثقافي فهو طقس يشارك فيه كل طوائف المجتمع على اختلافه، أي حالة إنصهار إجتماعي عام يؤكد على السمة الإحتفالية، وما يحدث أن المتفرجين يتفاعلون سلباً أو إيجاباً مع الشخصيات أي نجدهم يتدافعون للدفاع عن الحسين أو شبيه الحسين ويهاجمون أشباه بني أمية، بل قد يقتلون أو يجرحون منهم، والبعض من هؤلاء الممثلين الشعبيين قد يُؤمّن على نفسه وعلى حياته رسمياً قبل العرض السنوي.كما أن المتفرجين يأخذون الأدوات البسيطة المستخدمة خاصة أدوات آل البيت للتبرك مثل السيوف أو الملابس بشكل ديني واضح.
أي أن تلك المسرحيات ليس الهدف منها فقط إحياء الذكرى ولكن إستعادة الحدث الفعلي والتوحد معه في محاولة تكرارية للتطهر الجمعي (تطبيقاً لمنهج يونج النفسي) من الذنب التاريخي الذي حمّلَه الشيعة لأنفسهم لتسببهم في مقتل الحسين بتخليهم عنه.كما أن مسرح العزاء يتجاوز الحدود الزمانية والمكانية الواضحة في محاولة لإستدعاء الحسين ذاته، مع الإنهيار الكامل بين الذات والموضوع، فلمسرح العزاء وظيفة دينية على الأقل في العقل الشعبي.
فالتكرار السنوي لطقوس المسرح العزائي أنتج حالة من التثبيت للعناصر المقدسة في العقل الجمعي الشيعي والإيراني خاصة، كما يؤكد على إنهيار الفواصل بين الممثل والشخصية التي يقوم بأدائها في عقل المتلقي على الأقل، ويُعيد فكرة تلبس الأوراح لأجساد الممثلين في المسرح اليوناني والمصري القديم، فمسرح العزاء لا يختلف من حيث الوظيفية عن أي من المسارح ذات الطابع الديني في تاريخ الإنسانية بشكل عام.فالشبيه الحسيني لا يمثل الشبيه أكثر من تجسيده للأصل ذاته.
2 ـ مسيرة العزاء وعودة الإله المقتول:
أهم طقوس العزاء على الإطلاق وأكثرها إثارة للجدل هي مسيرة العزاء، تمثل المسيرة حالة من تعذيب وجلد الذات على أمل نيل الشفاعة من الحسين والآئمة يوم القيامة كما يؤكد الفكر الشيعي، فكلما زاد الألم زادت المغفرة، وكلما تعاظم الذنب إزداد الأمل في الشفاعة.
تبدأ مسيرة العزاء على شكل مواكب تبدأ منذ اليوم الأول إلى اليوم العاشر من محرم سنوياً، تتنوع المواكب من موكب (اللطامة، وبالفارسية ـ سينه زني ـ أو ضرب الصدور)، ويتكون من مجموعة كاشفين صدورهم ويضربون عليها بعنف متصاحباً هذا مع قراءة لأشعار العزاء التي تمثل الجانب الشعري من المأساة الحسينية.وموكب (الجنازير ـ زنجير زني ـ الضرب بالجنازير)، وهو عبارة عن أناس يحملون جنازير تنتهي بسكاكين صغيرة يضربون بها ظهورهم العارية بشكل إقاعي حتى تدمى، ويحمل هذا الموكب عصا طويلة مرفوع عليها ما يرمز إلى لسان تشير إلى نهاية (الشمر بن ذي الجوشن) كما ذكرتها الحكاية الدينية بتحوله إلى كلب أسود عطشان.ثم موكب (التطبير ـ قمه زني ـ الضرب بالسيوف)، ويتكون من مجموعة يرتدون ملابس بيضاء كأنها كفن ويضربون رؤوسهم الحليقة بالسيوف متصاحباً ذلك بفريق أخر يفرق الحلوى على المطبرين لإعطائهم الطاقة.وتجتمع تلك المواكب في اليوم العاشر في الميادين العامة في حالة هياج دموي قوي.ورغم أن هذه الطقوس قد قلت حدتها في الأونة الأخيرة في إيران ورغم رفض بعض الجهات الرسمية لهذه الطقوس الدموية إلا أنها كانت على هذه الحال ويمكن أكثر فيما سبق، و ما زالت مستمرة للآن وإن كانت ليست بنفس الحدة.
كما أن فكل الأدوات المستخدمة تؤخذ للتبرك أيضاً، كما أن دموع ودماء الممارسين لهذه الطقوس اللذين غالباً ما يكونوا متتطوعين تُجمع وتُستخدم للتبرك والشفاء، كما أن العديد من النساء اللواتي لا ينجبن يجعلن أحد أطفال الأسرة يشارك في هذه الطقوس علّه يعود إليها بالبركة، وكلها ملامح ذات طابع كرنفالي أسطوري الدلالة، فمأساة الحسين متوحدة مع الوجدان الجمعي بشكل كامل.
الأهم هو البعد الرمزي والتاريخي خلف هذه الطقوس، فهي ليست وليدة أزمة الحسين منفردة وإلا لما إختيار هذا الشكل الطقسي تحديداً تعبيراً عن أزمة الحسين، فعلى المستوى التاريخ الديني، نجد تشابهاً كاملاً بين الطقوس الحسينية وطقوس الإحتفال السنوي بعودة (تموز ـ دموزي) في الديانات البابلية والسومرية القديمة، كانت تلك الطقوس تُقام في حوالي الألف الثالث قبل الميلاد في العراق القديم، في محاولة للإعتذار لإله الربيع تموز الذي هبط إلى العالم السفلي بعض عذر الآلهة به، وحكمت عليه أنه لن يعود إلا ثلاثة شهور كل عام، فكانت تُقام طقوس العزاء والبكاء على زوال تموز والإحتفال بعودته.كما كانت تُقام نفس تلك الملامح الطقسية في منطقة (آسيا الوسطى) في نفس المرحلة التاريخية في محاولة لإستدعاء إله قُتل عدراً كذلك.
ولكن الأهم من النموذجين السابقين الطقوس التي كانت تُقام في إيران في الألف الثاني قبل الميلاد واستمرت لما بعد الإسلام كذلك في بعض المناطق في إيران، وهي طقوس الحزن على سياوش، هو (سياوش بن كيكاوس) أحد الأبطال الإيرانيين الأسطورين القدماء، قُتل غدراً على يد أحد أعداء الدولة الإيرانية وهو البطل (أفراسياب) التركي، بعد أن هرب من والده في إيران بعد إتهامه في زوجة أبيه، ولدى علم أبيه ما حدث لولده قرر إقامة العزاء عليه، كما أن لسياوش قيمة مقدسة تفوق قيمة كونه بطلاً مذكور في الشاهنامه (الملحمة الفارسية التي نظمها الشاعر الإيراني الفردوسي)، ففي الأفستا (الكتاب المقدس لدى الزرادشتية) ورد (نعبد الملك المقدس سياوش)، أي أنه متشابه مع الحسين في بناءه الملحمي الأسطوري المقدس، أي أن كلاهما بطل تم قتله فصار مقدساً.فكل طقوس العزاء الحسيني مأخوذة بشكل كلي من طقوس عزاء سياوش، كما يتزامن ذلك مع احتفالات أعياد الربيع أي تشابه التوقيت مع احتفالات دموزي.
وقد أشار العديد من الباحثين إلى الأصل الإيراني لإحتفالات العزاء، منهم (يان ريشار ـ الباحث الفرنسي) في كتابه (الإسلام الشيعي)، كما أكد على تلك السمة العديد من الباحثين الإيرانيين أمثال (د / مهرداد بهار ـ الأستاذ الإيراني المتخصص في الميثولوجي) في كتابيه (از اسطوره تا تاريخ ـ من الأسطورة إلى التاريخ)وكذلك (بژوهشي در أساطير إيران ـ البحث في أساطير إيران).
وفي النهاية فإن مقتل الحسين بن علي في حادثة كربلاء قد خرج عن كونه سياق تاريخي منضبط لحدث وقع بالفعل، و تطور ليتوحد مع الأصول التاريخية والأسطورية والدينية للعقل الإسلامي في منطقة الشرق بشكل عام، فهو إعادة تجسيد لكل الوعي الملحمي المتراكم في العقلية الجمعية على مختلف مستوياتها حتى بتحولاتها المذهبية والدينية.فما زلنا في مصر نحتفل بمولد الحسين، وإلى فترة فريبة كان هناك موكب العجم الذي كان يمارس نفس الطقوس العزائية في أواسط القرن المنقضي، فالحسين ليس فقط حفيد لرسول الله قتل عدراً وظلماً، بل هو رمز للشهادة والحرية والأمل المنتظر، ففي مصر نحتفل بمولده وفي إيران يحتفون بموته فكلنا نمجد الحسين ولكن كلاً على طريقته.
ـ ( للباحث كتاب ( كربلاء بين الأسطورة والتاريخ ـ دراسة في الوعي الشعبي الإيراني) 2009.)
التعليقات