تمثل زيارة إبراهيم رئيسي الرئيس الإيراني مؤخراً إلى الصين رهاناً واضحاً على دور الصين ـ إلى جانب روسيا ـ في فك عزلة إيران، ما يثير تساؤلات حول حدود الدور المتوقع للصين ـ أكبر مستهلك للطاقة في العالم ـ في هذا الإطار.

بلاشك أن رؤية الصين لإيران لا تقتصر على ملف الطاقة، رغم أهميتها القصوى بالنسبة لبكين، ولكنها تطال أيضاً التوجهات الإستراتيجية الصينية بعيدة المدى، حيث يشهد العالم إعادة "هندسة" لقواعد النظام العالمي في ضوء ما تمليه حرب أوكرانيا، ما يعني أن أهمية إيران بالنسبة للصين تفوق مسألة التجارة والنفط وغير ذلك، وهي أهمية متبادلة لعضوي منظمة "شنغهاي" رغم إختلاف أولويات الجانبين في هذا الجانب.

إيران من جانبها تدرك جيداً تنامي أهميتها الإستراتيجية ضمن تطلعات الصين لبناء نظام عالمي جديد تلعب فيه دوراً حيوياً، وهو ماعكسته كلمة إبراهيم رئيسي أمام أساتذة جامعة بكين حيث قال "هناك عالم جديد بدأ في التشكل والنظام القديم يختفي تدريجياً"، وأشار في مقال نشر بصحيفة "الشعب" الصينية قبيل زيارته لبكين إلى أن الدولتين تعارضان الهيمنة والنزعة الأحادية، وتؤكدان على إحترام حقوق ومصالح جميع الدول، وهنا يرى بعض الخبراء والمتخصصين أن إيران تقدم نفسها للصين وروسيا باعتبارها الطرف الثالث في إطار ما يوصف بـ"المثلث الحديدي" الذي يسعى لتقويض الهيمنة الأميركية على النظام العالمي سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.

الموضوعية تقتضي القول بأن هناك فارق بين التطلعات والواقع، فعلى سبيل المثال نلحظ أن إجمالي إستثمارات الصين في إيران خلال العام الماضي ـ بعد توقيع اتفاق التعاون الإستراتيجي ـ لم تتجاوز 165 مليون دولار، في حين أن هناك توقعات بأن تصل إستثمارات الصين في إيران بموجب هذا الاتفاق إلى 400 مليار دولار خلال 25 عاماً، مقابل ضمان حصولها على موارد الطاقة اللازمة، والكل يعرف أولوية أمن الطاقة بالنسبة لبكين في المرحلة الراهنة.

الشواهد تقول أن احتياج الصين لإيران يتزايد خلال المدى المنظور، لاسيما في ظل تنامي إحتمالات حدوث مواجهة عسكرية صينية ـ أمريكية على خلفية سعي الصين لاستعادة جزيرة تايوان لسيادتها الوطنية، وهو ملف شائك يثير توقعات واسعة بتكرار سيناريو أوكرانيا، ما يعني أن الصين ستكون بحاجة إلى دعم دول إقليمية أخرى مثل إيران، وخصوصاً في ظل الجهود الحثيثة التي تبذلها واشنطن لحشد تحالف من الدول المجاورة للصين تحسباً لإندلاع أي صراع محتمل بشأن تايوان. بالإضافة لما سبق فإن الصين التي تستعد للعب دور عالمي مركزي في نظام ما بعد أوكرانيا، لا يمكن لها الإستغناء عن بناء تحالفات قوية في منطقة حيوية كالشرق الأوسط، ولذا فهي تنظر لإيران بمنظور إستراتيجي بعيد المدى، ولكنها في الوقت ذاته لا تريد لهذه العلاقة أن تقيد شراكات الصين الإستراتيجية المتنامية مع بقية دول الشرق الأوسط، ولاسيما دول مجلس التعاون وإسرائيل، وبالتالي فهي تحرص تماماً على فصل الملفات والعمل بشكل متواز في إطار شبكة علاقات مصالحية تنبع من توجهات الصين القائمة على عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى وضمان سيادة الدول.

الصين تدير علاقاتها في الشرق الأوسط وفق نظرة قائمة على تفادي الصدام مع السياسات والأدوار الأميركية بشكل خاص والغربية بشكل عام، فضلاً عن تفادي أثر الخلافات والتوترات بين دول الإقليم والعمل بشكل منفصل بعيداً عن هذه الخلافات. ولكن هل تفلح هذه السياسة في فك عزلة إيران دولياً؟ الجواب على هذا التساؤل يجب أن يتضمن حدود دور الصين في إحياء مفاوضات الإتفاق النووي، باعتبارها المفتاح لرفع العقوبات الغربية المفروضة على إيران، وهنا تجب الإشارة إلى أن التحليل يقودنا إلى أن مصلحة الصين الإستراتيجية لا تتماشى مع فك عزلة إيران من الأساس، وأن إنفراج العلاقات بين طهران والعواصم الغربية لا يصب بمصلحة بكين، لاسيما في ظل المؤشرات الدالة على أن توجهات غالبية النخب والشعب الإيراني تميل نحو الغرب، وبالتالي فإن أي إنفراجة في العلاقات الإيرانية ـ الأميركية تحديداً ستكون خصماً من خطط التعاون الإستراتيجي مع بكين في ظل الصراع المحتدم على قيادة النظام العالمي في ضوء ماسبق، يصعب توقع قيام الصين بلعب دور مؤثر في إقناع الغرب بالعودة إلى مائدة التفاوض مع إيران لمناقشة إحياء الإتفاق النووي، لأن الصين لم تفعل ذلك في حالات توقف المفاوضات لأسباب مختلفة خلال الأعوام الماضية، بل لعبت أوروبا هذا الدور، كما أن الصين ليست من الأساس في وضع يسمح لها بلعب دور وساطة بين طهران والعواصم الغربية، بحكم توتر العلاقات بين الصين نفسها وتلك العواصم، ناهيك عن السبب السابق ذكره بشأن إنتفاء أي مصلحة للصين في رأب الخلاف فيما يتعلق بالإتفاق النووي.

هناك إذا محدودية واضحة لهامش المناورة المتاح أمام الصين في مسألة فك عزلة إيران دولياً، ولكن الشواهد تؤكد أن توجه الصين نحو إيران يمضى بحذر نسبي، ولكنه يتقدم فبكين التي كانت تستجيب للعقوبات الأميركية على طهران بشكل كامل فيما سبق لم تعد تفعل ذلك بشكل مطلق، بل باتت تكتسب هوامش تحرك ذاتية جديدة على حساب القيود الأميركية، حيث تقوم بشراء النفط الإيراني وتخترق العقوبات الأميركية ليس فقط تلبية لإحتياجاتها من الطاقة، ولكن أيضاً لإثبات حدود أو سقف قدراتها الجديدة على تحدي النفوذ الأميركي. على الجانب الآخر ، نلحظ أن واشنطن نفسها باتت تجد نفسها مرغمة على قبول هذه التحركات الصينية سواء بسبب الرغبة في تفادي الصدام، أو بسبب الرغبة في مقايضة المصالح والأوراق، وتحقيق المصالح الأميركية لاسيما فيما يتعلق بالسيطرة على أسعار النفط ولو من خلال النفط الإيراني الذي يتم تهريبه تحت أعين الرقابة الأميركية.

ثمة نقطة مهمة أخرى تتمثل في أن زيادة الدعم الصيني لإيران تقنياً وتوسيع نطاق التبادلات التجارية والاقتصادية والصناعية سيمكن إيران من تحدي الغرب بمزيد من الجرأة والسعي للعب دور إقليمي ودولي اوسع وأكثر نشاطاً ما يعكس التحلل من العزلة المفروضة غربياً، وهذا ما قد يؤثر سلباً في المصالح الإستراتيجية للدول الخليجية والعربية.