تُشير متابعة تطورات الموقف الإيراني في الصراع العسكري الدائر بغزة بين حركة "حماس" الإرهابية والجيش الإسرائيلي إلى أمور عدة مهمة في مقدمتها أن إيران تتبنى استراتيجية دقيقة وحذرة للغاية في التعاطي مع هذه الأزمة غير المسبوقة، والمسألة بالنسبة لها ليست التدخل في الصراع من عدمه، بل في كيفية الاستفادة منه في تعزيز نفوذ ومكانة إيران إقليميًا ودوليًا، حيث تبدو إيران في صراع محتدم مع تركيا في هذا الشأن.

الأمر المؤكد في السلوك الإيراني تجاه ما يدور في غزة هو أن طهران لن تغامر بخوض حرب مباشرة دفاعًا عن المدنيين في غزة، وما نراه من تحذيرات متكررة على لسان وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان وقيادات الحرس الثوري بشأن توسيع نطاق الحرب، ليست سوى محاولات للضغط من أجل تحقيق أهداف استراتيجية لأن إيران يهمها للغاية أن تتوقف العملية العسكرية الإسرائيلية قبل تدمير البنية التحتية القتالية لحركة "حماس" الإرهابية، وأن يبقى للحركة تأثير ودور على الأراضي الفلسطينية، وإلا فإن البديل سيكون هو السيناريو الأسوأ بالنسبة لإيران، التي ستفقد أحد نقاط ارتكازها المحورية في منطقة الشرق الأوسط.
تجيد إيران توظيف معطيات الواقع الراهن، فهي تدرك جيدًا مدى حساسية الغرب لاحتمالية توسع نطاق الصراع الدائر بغزة، لاسيما في ظل الشواهد التي تقول أن أي توسع محتمل يعني تطويق مراكز الطاقة الحيوية في الخليج العربي والشرق الأوسط بصراع تتداخل فيه أذرع إيران الميلشياوية في اليمن والعراق ولبنان والأراضي الفلسطينية، وهذا كله يعني تهديدًا مباشرًا وخطيرًا لصادرات النفط، وبالتبعية للاقتصادات الغربية، وقد التقطت إيران الرسالة الأميركية التي تمثلت في اتخاذ قرارات استراتيجية مهمة، وبالأخص إرسال حاملتي الطائرات "جيرالد ر. فورد" و"يو إس إس أيزنهاور"، والسفن الحربية التابعة لها، إلى شرق البحر المتوسط إلى جانب زيادة عدد أسراب الطائرات المقاتلة التابعة لسلاح الجو الأميركي من طراز إف-35 وإف-15 وإف-16 وآي-10، وإرسال نظامين من أقوى أنظمة الدفاع الصاروخي إلى الشرق الأوسط، وهما بطاريات “ثاد" و"باتريوت"، وهي رسالة تعني على أرض الواقع جاهزية الولايات المتحدة للدفاع عن مصالحها الاستراتيجية وفي مقدمتها الدفاع عن إسرائيل في حال اتسع نطاق الصراع، ولذا فإن إيران قررت الحفاظ على مستوى تدخلها في أزمة غزة عند حدود تضمن لها مواصلة الدعاية السياسية وترويج الشعارات، ولكن من دون تطوير أي موقف عسكري يضعها في صدام مباشر مع الولايات المتحدة، وهذا أمر مقبول إلى حد ما من الجانب الأميركي الذي يعيش لعبة الشد والجذب مع الإيرانيين منذ سنوات طويلة، ويتواصل معاهم بطرق وقنوات غير مباشرة لتوصيل الرسائل بل وتنسيق ردود الأفعال بما يضمن عدم التورط في مواجهة عسكرية مباشرة، وهنا نشير إلى التصريحات الإيرانية الأميركية المتبادلة بشأن رسائل تحذير أميركية أٌرسلت إلى طهران عبر وسطاء إقليميين، وهي التحذيرات التي تصفها طهران بالمناشدات وتكشف عنها في أحيان كثيرة لأغراض التسويق السياسي، هادفة إلى إحراج الإدارة الأميركية التي تحرص على سرية هذه الرسائل.

وبالمناسبة فإن المعتاد في الصراعات الدولية الكبرى وفي فترات احتدام التوتر والاقتراب من حافة الهاوية تحديدًا، وتفاديًا لسوء الفهم وأخطاء الحسابات الاستراتيجية، تقوم الدول بتبادل رسائل محددة ودقيقة حول طبيعة وأهداف مواقف وسلوكيات عسكرية أو سياسية بعينها عبر طرق وقنوات غير مباشرة لتوضيح مواقفها للطرف الآخر، وقد حدث ذلك كثيرًا في حقبة الحرب الباردة ويحدث مرارًا وتكرارًا، وهو أمر متعارف عليه، ويصب بمصلحة طرفي/ أطراف الصراع/ التوتر، ولكن إيران توظف مثل هذه الأمور لأغراض تعبوية ودعائية في تسويق موقفها المتعلق بالتصدي لما تصفه بـ"الاستكبار العالمي" وحشد المزيد من الأنصار والمؤيدين لها في ذلك.

لاشك أن مجمل المناشدات والتصريحات الغربية الخاصة بضرورة لجم الموقف الإيراني والحيلولة دون تدخل طهران في الصراع هو أمر مرحب به في طهران كونه يصب بمصلحة استراتيجية النظام الدعائية الخاصة بمواجهة ما يوصف بالاستكبار الأميركي، بمعنى أن إيران تريد أن يكون موقفها "جعجعة من دون طحين"، والغرب يدرك ذلك جيدًا ويعرف كيف يفكر الإيرانيون ويقدم لهم ببساطة ما يريدون من تصريحات ومواقف حتى وإن بدت في ظاهرها تقليلًا من تأثيره وقدرته على لجم الاندفاع والنفوذ الإيراني، طالما أنها تصب أيضًا في مصلحة استراتيجيات الدول الغربية التي لا تريد إشعال صراع واسع في منطقة الشرق الأوسط.

هذه الاستراتيجية الإيرانية التي تسير على حبل مشدود تفسر جزئيًا تحذيرات القادة والمسؤولين الإيرانيين المتوالية من توسيع نطاق الصراع العسكري الدائر في غزة من ناحية، وتملصها الشديد من الهجمات التي تشنها أذرع ميلشياوية يعرف الجميع مصادر تمويلها وتبعينها وتدريبها ودعمها من ناحية ثانية
لا تريد إيران إذن أن تظهر في مشهد تحد عسكري مباشر للولايات المتحدة وإسرائيل، ولكنها تريد بالمقابل حصد المكاسب الاستراتيجية التي تراها في التطورات الاقليمية المتسارعة، وتدرك أن مابعد السابع من أكتوبر لن يكون كما قبله، وبالتالي هي تريد أن تضع نفسها من خلال ممارسة أقصى الضغوط والتهديدات، أن قلب المعادلة، وأن تكون طرفًا لا غنى عنه في أي ترتيبات إقليمية سواء تلك المتعلقة بالقضية الفلسطينية أو بالوضع الاقليمي بشكل عام.

واقعيًا وفي المقابل، نجحت استراتيجية الردع الأميركية في الحد من قدرة إيران وأذرعها على المناورة وكسب أرض جديدة ولو على مستوى الدعاية في منطقة الشرق الأوسط، حيث نجح الحشد العسكري الأميركي وكذلك التصدي للهجمات التي تشنها جماعة "الحوثي" الإرهابية ضد إسرائيل بالصواريخ والمسيرّات، في حرمان هذه الأذرع من ورقة دعائية كان يمكن أن تسبب المزيد من الضجيج الاقليمي لمصلحة إيران، ورغم أن استراتيجيات الردع تحتاج في نجاحها في المطلق إلى خصوم عقلانيين يمكن توقع ردود أفعالهم، كما يقول الخبراء فإن إيران ووكلائها قد فهموا من هذه الاستراتيجية ما يمكن فهمه وفي الحدود التي تحقق الغرض منها، حيث واصلوا التهديدات وشن الهجمات الصاروخية ولكن من دون تجاوز للحدود المفهومة ضمنيًا، وهي في الأغلب بقاء المواجهة في إطار تبادل محدود ومحسوب للقصف والضربات من دون ضحايًا سواء أميركيين أو إسرائيليين، رغم أن هذه اللعبة تبدو خطيرة ومعقدة للغاية، خصوصًا بعدما اسقطت ميلشيا "الحوثي" مسيرة أميركية من طراز MQ-9، في تكرار لواقعة اسقاط مسيرّة أميركية من الطراز ذاته عام 2019، ولكن هذا كله لا ينفي أن هذه الممارسات قد يكون لها تكلفة فعلية في مرحلة مابعد انتهاء صراع غزة.