كنتُ قد سمعت مراراً عن سالزبورغ، ومنذ الصغر، وأكثر ما كنتُ أعرفه عنها، فريق كرة القدم، وهو الأشهر والأوفر حظاً هنا في النمسا.

وبعد مضي سنوات على معرفتي بتاريخ هذه المدينة الساحرة، وضعت أقدامي أخيراً على ترابها، وشاهدت بأمّ عيني ما كنت، كما ذكرت، أُلملم بعض ما تحفظه ذاكرتي عنها.

وإن كانت النظرة الأولى لهذه المدينة المترعة سحراً في جمال أبنيتها، وزهو جبالها الشاهقة، وطقسها المنعش، لا سيما أنّها تُعد المدينة الرابعة في النمسا، من حيث الأهميّة، إلّا أنّها حافظت على تراثها ومجدها القديم.

تتمتع سالزبورغ بحركة دؤوب، تختلف عمّا سواها من المدن النمساوية الأخرى. فهي مدينة سياحية بامتياز.

وبالرغم من قدم بنائها، وهذا ما يُلفت النظر، إلّا أنَّ هذا لم يُوقف أو يَمنع الأهالي من إعادة ترميم وتحسين الكثير من أجزائها للمحافظة على طابعها القوطي والباروكي القديم، أضف إلى تشييد العديد من الأبنية الحديثة الموزّعة في ريفها الذي يُثلج الصدر.

ها نحن، نقضي يومنا بين سهولها الخضراء، وأشجارها المثمرة اليانعة، وأمطارها الربيعية المنعشة، وطقسها المعتدل طوال أيام السنة، ويتوّج ذلك بثلوجها التي تغطي جبالها العالية.

سالزبورغ، مدينة تُبهج القلب والروح معاً. حياة دائبة من النشاط، وكما حال أغلب المدن النمساوية، فإنّ جسر العشّاق، أو جسر "القفولة"، كما هو معروف عنه، ويسميه الناس هكذا في كل المدن الأوروبية، تراه يتربّع في وسط المدينة، ينفض أريجه، مفرملاً لغة العشّاق، طاغياً جوّاً من الحب على زوّارها الكثر، وأفواج السيّاح القادمون من كل بقاع الدنيا، الذين يعيشون لحظات من الحب، وهم يتغنّون بجمال المدينة، وجسرها الذي تحمل شباكه أعداد هائلة من الأقفال التي يحتضنها، ويمر من تحته نهر "مور" المتدفّق بسرعة جريانه.

الصورة التي رأيناها في زيارتنا في يومها الأول إلى سالزبورغ، وقراءة هذا الواقع، يشير إلى أنه من حق الأوروبي التغنّي ببلاده، لأنها، وبصراحة، سحر متجدّد من البهاء والروعة، وإن ظلّت بلادنا العربية، بالرغم من الفقر المدقع الذي يضرب أطنابه في كل مكان، والطقس الحار الذي يلّفّها، والمشكلات التي ألّبت مضاجع أهلها، تظل لها نكهتها، والشوق الذي يُجسّد أحلام الشباب، بالهجرة إلى خارجها، فإنّها تعد مثالاً في الرِّقة والبهاء، والطابع الفيّاض بحنوه، وها هي تودّع الغد الأمل متوسدةً الحلم بمستقبل مشرق.

بقي أن نقول، إنَّ مدينة سالزبورغ تقع شمال وسط النمسا، بالقرب من سفوح جبال الألب الشمالية والحدود البافارية الألمانية، وتعتبر المدينة موطناً للتلال الخضراء والحدائق الجميلة والوديعة والخلاّبة، أضف إلى كونها وجهة سياحية مشهورة، وخاصة في فصل الشتاء.

وتشهد سالزبورغ مناخاً قارياً حيث يجلب الشتاء تساقط الثلوج، ودرجات الحرارة تكون مرتفعة والأمطار تكون بكثرة، كما وتشتهر المدينة، بكونها موطن موزارت، بالمهرجانات الموسيقية الشهيرة، ويطلق عليها اسم المدينة الموسيقية. وتحتوي على مقبرة عائلة الموسيقي، فضلاً عن أنها تحتضن على قلعة هوهن سالزبورغ وهي واحدة من أكبر القلاع التي تعود للقرون الوسطى في أوروبا. تأسرك بإطلالتها العالية فوق الأبراج الباروكية في المدينة، وهي معلمٌ بارزٌ يدلُّ على المخطّط المشهور عالمياً للمدينة، وبنيت القلعة عام 1077 وهي أكبرُ قلعةٍ مُحافظٌ عليها بشكل كاملٍ في وسط أوروبا، وتتمتعُ غرفُ أمراء العصور الوسطى ومتحفُ القلعة بأهميةٍ خاصة. وتمتلك هذه القلعة العديد من السمات لأنها إحدى التُحف المعمارية البارزة كبنائها الفريد، و أسوارها العالية، و أبراجها الحصينة.

إنّ تاريخ بنائها يعود إلى العصور الوسطى، أما سبب بناءها يكمُن في أنها شُيّدت لتكون مركزاً لمقاومة الإمبراطورية الرومانية المقدسة في حين أن فون هلفينشتاين هو من قام ببنائها.

إنّ زيارة هذه القلعة يُعد متعة بحد ذاتها، والأكثر من ذلك مُتعة أنّ الوصول إلى قلعة هوهن سالزبورغ سيكون عبر ركوب التلفريك، وبالتالي ثِق بأنك ستُمضي أوقاتاً مميزة، وسوف تستمتع بمشاهد لا وصف لجمالها.

ركوب القطار الجبلي الذي يوفر لكم الوصول إلى القلعة والاستمتاع بمشاهدة المناظر الطبيعية.

يمكنكم الوصول إلى القلعة مشياً على الأقدام، وهي تجربة ممتعة ولكنها شاقّة بعض الشيء.. ناهيك بوجود جسرٌ يربط بين مكان القلعة و اليابسة، وما من وسيلةٍ أجمل من هذه تتّخذها لبلوغ القلعة وتتمتّع بالمشاهد المحيطة بك طوال الطريق.

في القلعة تتأمل الفنون المعمارية الأصيلة التي تتميّز بها القلعة، كما يُمكنك التجوال في فنائها، والتعرّف على المكان عن قُرب أكثر فأكثر، وهذا ما يجعلك تتأمل المكان، وتعيد النظر به مراراً، وهذا ما يدهش زوار سالزبورغ وقلعتها التاريخية التي يعود تاريخ بناءها- وكما ذكرنا- إلى العصور الوسطى.