جرت عادة اللغة، وعادة تفضيل الذكور على أن يُغلَّب المذكر على المؤنث فى الخطاب حتى وإن قلَّ هذا المذكر أو ندر أو فُقِد، فأما فى هذه المقالة، فقد رأيت أنه ليس يصلح لها إلا الجري على غير عادة اللغة، والسبح عكس تيارها، وتقديم المُخاطَبة المؤنثة على المذكر، وعذري فى ذلك أن المقالة مؤنثة العنوان، مؤنثة المُخاطَب، مؤنثة المعنى، وإني لعلَى ثقة أن السادة الرجال الذين أُشبِعوا تقديمًا وتصديرًا لن يغاروا أو يحقدوا إن قدَّمنا عليهم النساء في هذه المقالة، على أني أعِدهم أن ذلك لن ينال من رجولتهم في شيء، وإني كذلك لعلَى ثقة أن اللغة لن تجد حرجًا إن غلَّبت خطاب المؤنث على المذكر في هذه المقالة، على أني أعِدها أن يكون ذلك استثناء لا ينال من القاعدة فى شيء.

قارئتي الفاضلة، لئن وقعت مقالتي هذه بين يديكِ، واتسع وقتكِ لقراءة أسطرها، ورحُبت ساحتكِ لتلقي معانيها، فهذا ما أوصيكِ به قبل قراءتها: إذا أنتِ شرعتِ فى مطالعة هذه المقالة فلا تنزليها من نفسك منزلة الوعظ والإرشاد، ولا تجعلي موقعها من قلبك موقع اللوم والتقريع، بل أنزليها من عقلك موقع الفائدة اللغوية، فحينئذ تَخِفُّ عليكِ قراءتها، ويتيسر لكِ قبول فائدتها.

ومقالتي هذه عن الأصل اللغوي للجذر "حَرَرَ" الذى اشتقت منه: التحرر، الحرية، الحُرّ، الحُرَّة، ... ونحوها، فهذا الأصل اللغوي يدور فى معناه على الخُلوص من الشوائب، والعتق والكرم، والانعتاق، ونفاسة القدر، فيقال: حُرُّ الكلام أي أحسنه، وحُرُّ المتاع والضِّياع أي أفضلها، وأحرار البقول أفضلها وخيارها، وفي التنزيل الحكيم: "رب إني نذرت لك ما في بطني مُحرَّرًا" أي خالصًا مفرغاً للعبادة، ويقال في صفة المرأة "حرة" إذا لم تكن أَمَة مملوكة بل سيدة تامة الحرية، كريمة على أهلها، ويقال كذلك امرأة "حرة" أي امرأة حَصَان متعففة، يمنعها خُلُق "الحرية" أن يَزِلَّ بها الهوى إلى التبذل، وتأنف طبيعتها "الحرة" أن تخادن الرجال، أو تبرز سافرة تتكشف بين أيديهم؛ لأنها "حرة"، فالحرائر كن يترفعن عن خلق التبذُّل والتكشف للرجال، ويتركنه للإماء والجواري، فكان التعفف والتحفظ خُلُقًا لازمًا "للحُرَّة" فى الجاهلية والإسلام، حتى لقد كانت "الحرة" تجيء لتُبايِع على الإسلام، وهي بعدُ حديثة عهد بجاهلية، فيكون من شرائط البيعة "ألا تزني" فتتعجب قائلة: "وهل تزني الحرة؟!" فقد كان هذا الخُلُق المذموم من خوارم "الحرية" عند الحرائر.

ولقد بقيت تلك الصفة كذلك تتوارثها الحرائر "حرة من بعد حرة"، ودهرًا من بعد دهر حتى دار الزمان دورته، فتبدل المعنى إلى نقيضه، وتحولت الصفة إلى ضدها، فاليوم لا تقال: "أنا حرة" إلا إذا أرادت "الحرة" أن "تتحرر" من كونها "حرة" وأن تفعل بنفسها فعل الأَمَة والجارية "غير الحرة"!

فالمسكينة تزعم أنها "حرة" إن هي أرادت تضع ثيابها، وترفع حجابها، وتتكشف بين يدي الأجانب من الرجال! وهى تزعم أنها "حرة" إن هى أرادت الرقص على أعين الناس! وتزعم أنها "حرة" إن هي أرادت الخروج أو السفر من بيتها وحدها بغير إذن وليها! وتزعم أنها "حرة" إن هي أرادت اتخاذ خِدن لها تواعده وتساكنه! وتزعم أنها "حرة" فى جسمها إن هي أرادت أن تكون أمًّا عزباء، فتُضاجَع وتحمل وتضع من غير عقد زواج ولا تُسأل عن ذلك؛ لأنها "حرة"! وإن بدا لها بعد المعاشرة والحمل أن تجهض فهي كذلك "حرة" لا تُسأل ولا تُلام؛ لأنها "حرة" التصرف في جسمها! وهي تزعم أنها "حرة" في أن تركب "حُر هواها" وإن خالف شرعًا أو خُلُقًا!

فانظري أيتها الفاضلة، كيف تأوَّلت طائفة من نساء هذا الزمان صفة "الحرة" على أنها "الانفلات"، ودعت إليها غيرهن من النساء والفتيات، ثم تخلقن بهذه الصفة على هذا التأويل فبعدن بُعدًا شاسعًا عن أن يكن حرائر! بل إن تأويلهن لاسم "الحرية" على هذا الوجه ليجعلهن من حيث لا يُرِدن أقرب إلى صفات الإماء قديمًا فى خُلُقهن، وملبسهن، وتبذلهن!

فهلَّا رجعن إلى المعجم "ليحررن" أولًا معنى كلمة "حرة" قبل أن "يتحررن"! وهلَّا سألن جداتهن عمَّن تكون "الحرة" قبل أن يتأوَّلن معناها من عند أنفسهن، أو من عند بنات الخواجة! وهلَّا نشَّأ كل راعٍ وقيِّم بناته لا أقول على الدين فلعله اليوم صار "دقة قديمة"، بل أقول هلَّا نَشِّأتها على أن تكون "حرة" الخُلُق والطبع، فإن لم يكن لها دين يعصمها من التبذل والاتضاع عصمها إن شاء الله طبع "الحرة".

وربنا يجعل كلامنا خفيف عليكن.