في عالم تتسارع فيه التحديات وتتقاطع فيه المصالح وتتعاظم فيه الأزمات العابرة للحدود، لم يعد ممكناً الاعتماد على النماذج التقليدية في إدارة العلاقات الدولية أو في حل النزاعات. لقد بدا واضحاً أن الدبلوماسية الكلاسيكية القائمة على حماية المصالح الضيقة والمفاوضات المغلقة والمقاربات الصفرية، لم تعد قادرة على معالجة أزمات تتسم بالتشابك المعقّد مثل التغير المناخي والأوبئة والاضطرابات الاقتصادية والهجرات الجماعية وانتشار النزاعات المسلحة. وفي هذا السياق برز مفهوم الدبلوماسية التعاونية بوصفه اتجاهاً حديثاً يعكس التحول العميق في فهم طبيعة العالم، ويقدّم إطاراً عملياً لإقامة علاقات دولية مبنية على الشراكة والمسؤولية المشتركة، بدلاً من الصراع والمنافسة.
تقوم الدبلوماسية التعاونية على مبدأ جوهري هو أن الأزمات الكبرى التي تواجه الدول ليست قابلة للحل من خلال دولة واحدة أو تحالف محدود، بل تتطلب عملاً جماعياً يشارك فيه الجميع على أساس المصالح المتبادلة والرؤية المشتركة للمستقبل. إن الأوبئة مثلاً لا تعترف بالحدود، والتلوث لا يطلب تأشيرة قبل أن ينتشر، والفقر في منطقة ما يمكن أن يولد اضطرابات تؤثر على مناطق أخرى، والهجرة القسرية قد تتحول إلى موجة عالمية لا تتم السيطرة عليها إلا عبر حلول شاملة. لذلك فإن التعاون لم يعد رفاهية سياسية أو خياراً ثانوياً، بل أصبح ضرورة استراتيجية لبقاء العالم واستقراره.
ويعتمد هذا النهج الجديد على استبدال منطق القوة بمنطق الشراكة، وعلى إدراك أن التنافس قد يؤدي إلى نتائج قصيرة المدى، لكنه لا يبني نظاماً قادراً على الصمود في وجه التحديات. ولذلك فإن الدبلوماسية التعاونية تنقل العلاقات الدولية من خانة الصراع إلى خانة البناء المشترك، حيث يجلس الفرقاء حول طاولة واحدة بهدف إيجاد حلول عملية تغلب عليها الروح الجماعية وليس المصالح الضيقة. وقد باتت الأمم المتحدة ومنظمات إقليمية ودولية عدة تعتمد هذه المقاربة في كثير من مبادراتها، إدراكاً منها أن العمل التعاوني هو السبيل الوحيد لتجنيب العالم المزيد من الفوضى.
أحد أهم ملامح الدبلوماسية التعاونية هو الانتقال من التفاوض المرتكز على مبدأ “أنا أربح وأنت تخسر” إلى التفاوض الذي يقوم على “نربح معاً أو نخسر معاً”. فعلى سبيل المثال، حين تناقش الدول انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، فإنها لا تناقش مصلحة دولة محددة، بل مصلحة البشرية. إن دولة بمفردها لا تستطيع حماية المناخ إذا تجاهلتها دول أخرى، ولذلك فإن التعاون هو السبيل الطبيعي للتعامل مع قضية لا يمكن للدول أن تتنصل من تبعاتها.
كما يظهر تأثير الدبلوماسية التعاونية بوضوح في مواجهة الأوبئة والأزمات الصحية. لقد كشفت جائحة كورونا بوضوح ضعف النظام الدولي التقليدي، حين وجد العالم نفسه أمام اختبار حقيقي لم ينجح في تجاوزه إلا من خلال التعاون في مجالات مثل تبادل المعلومات الطبية والتنسيق العلمي وتوزيع اللقاحات ودعم الأنظمة الصحية الهشة. وأبرزت تلك الجائحة أن الدول التي اختارت الانعزال دفعت ثمناً أكبر، بينما تمكنت الدول التي تبنّت التعاون من تقليل الأضرار وبناء جسور جديدة من الثقة تبقى آثارها حتى اليوم. هذه التجربة أكدت أن التعاون ليس خياراً مثالياً بل مساراً عملياً وواقعياً لإنقاذ الأرواح وحماية المجتمعات.
أما اقتصادياً، فقد أصبحت الدبلوماسية التعاونية ركيزة أساسية من ركائز الاستقرار العالمي، خاصة في ظل ما يشهده العالم من اضطرابات مالية وتضخم وانكماش وتقلبات في سلاسل التوريد. إن الأسواق اليوم مترابطة إلى درجة تجعل انهيار اقتصاد دولة كبيرة قادراً على التأثير في اقتصادات دول بعيدة عنها جغرافياً. لذلك فإن السياسات المالية والنقدية لم تعد شأناً محلياً فقط، بل جزءاً من منظومة عالمية تحتاج إلى تنسيق دائم بين البنوك المركزية والمؤسسات الاقتصادية الدولية. وقد برز هذا النوع من التعاون خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008، حين توحّد العالم ـ ولو بشكل جزئي ـ في اتخاذ إجراءات متناغمة أدت إلى تخفيف حدة الانهيار.
ولا تقتصر الدبلوماسية التعاونية على الحكومات وحدها، بل تتسع لتشمل المجتمع المدني والقطاع الخاص والمنظمات الدولية، وهو ما يجعلها دبلوماسية متعددة الأطراف والأصوات. فالمشكلات التي تواجه العالم هي مشكلات مركّبة لا تعالجها جهة واحدة. التغير المناخي مثلاً يحتاج إلى جهود حكومية لكنه يحتاج أيضاً إلى شركات تعمل على تقليل الانبعاثات وإلى منظمات تدعو إلى حماية البيئة، وإلى مجتمعات تتبنى أساليب حياة أكثر وعياً. وهكذا تصبح الدبلوماسية التعاونية ساحة تشارك فيها كل القوى الفاعلة، مما يجعل الحلول التي تنتج عنها أكثر عمقاً واستدامة.
ولعل من أبرز الأمثلة المعاصرة على الدبلوماسية التعاونية هي الجهود التي تُبذل في إطار اتفاقات المناخ، مثل اتفاق باريس الذي شكّل مرحلة جديدة من العمل المشترك. فبالرغم من اختلاف مصالح الدول الصناعية عن مصالح الدول النامية، إلا أن الجميع اجتمع حول هدف واحد هو حماية كوكب الأرض. وبالرغم من الصعوبات والمخاوف الاقتصادية، فإن الاتفاق أظهر أن الإرادة السياسية حين تتجه نحو التعاون يمكن أن تتجاوز التعقيدات وأن تفتح آفاقاً جديدة لم يكن من الممكن الوصول إليها عبر المسارات التقليدية.
إن الدبلوماسية التعاونية تقدّم كذلك نموذجاً فعالاً في حل النزاعات الإقليمية، حيث تسعى الدول المتجاورة إلى معالجة خلافاتها من خلال منصات مشتركة بدلاً من سباقات التسلح أو التصعيد السياسي. فالتاريخ يثبت أن معظم النزاعات التي انتهت بالسلام الدائم كانت نتيجة تعاون إقليمي لا نتيجة اتفاقات مفروضة بالقوة. السلام لا يصمد إلا إذا وُلد من قناعة مشتركة بأن الاستقرار يخدم الجميع. وهذا ما يجعل الدبلوماسية التعاونية قادرة على تقديم حلول طويلة الأمد بدلاً من حلول شكلية أو هشة.
وتتميّز الدبلوماسية التعاونية أيضاً بإعلاء قيمة الحوار والشفافية وتبادل المعلومات، لأن بناء الثقة بين الدول لا يمكن أن يتم إلا عبر مكاشفة متبادلة وعدم إخفاء الحقائق. وهذه الثقة هي حجر الأساس لأي تعاون. إن الدبلوماسية التي تعتمد على الغموض أو المناورات قد تنجح في تحقيق مكاسب آنية لكنها تهدم جسوراً كثيرة. أما الدبلوماسية التي تقوم على الصراحة والاحترام المتبادل فإنها تخلق بيئة تسمح بحلول مبتكرة تحمي مصالح الجميع.
ولعل أكثر ما يميز هذا النهج هو أنه يعطي وزناً لقيم إنسانية كانت مهمّشة في العلاقات الدولية، مثل التضامن والمسؤولية الجماعية وحق الإنسان في الأمن والصحة والتعليم. فالدولة التي تقدم الدعم لدولة أخرى لا تفعل ذلك من باب الإحسان بل من باب القناعة بأن العالم منظومة واحدة، وأن ضعف جزء منها يعني ضعفها جميعاً. من هنا يبدو التعاون كاستثمار في المستقبل، وليس مجرد خطوة سياسية ظرفية.
كما أن الدبلوماسية التعاونية تسهم في تصحيح مفهوم السيادة الوطنية الذي يُساء تفسيره أحياناً. فالتعاون لا يتناقض مع السيادة بل يعزّزها، لأن الدولة القوية هي تلك القادرة على أن تكون شريكاً مؤثراً في النظام الدولي، لا دولة منعزلة على هامش التطورات العالمية. ومن خلال التعاون تستطيع الدول الصغيرة والمتوسطة أن تبني تحالفات تمنحها صوتاً أكبر في المحافل الدولية، وأن تحمي مصالحها عبر المشاركة لا عبر المواجهة.
وفي ظل الثورة الرقمية، أصبح التعاون أكثر سهولة مما كان عليه في الماضي، حيث يمكن للدول أن تجتمع افتراضياً وأن تتبادل البيانات وأن تتخذ القرارات بسرعة. وهذا التحول أعطى الدبلوماسية التعاونية بعداً جديداً، خاصة في مواجهة الجرائم الإلكترونية التي لا يمكن لدولة واحدة أن تحاربها بمفردها، بل تحتاج إلى شبكات عالمية من التعاون والتنسيق.
ومع ذلك، فإن الدبلوماسية التعاونية ليست طريقاً مثالياً يخلو من التحديات. فهناك اختلافات كبيرة بين الدول تجعل من التوصل إلى توافق أمراً صعباً، وهناك تنافس اقتصادي وجيوسياسي لا يمكن تجاهله، وهناك قوى دولية لا تزال تؤمن بمنطق الهيمنة. لكن بالرغم من ذلك، فإن التجارب أثبتت أن التعاون يحقق نتائج أكثر استقراراً وأعمق أثراً، وأن المستقبل سيكون للدول التي تختار الشراكة بدلاً من المواجهة.
وفي نهاية المطاف يمكن القول إن الدبلوماسية التعاونية ليست مجرد مصطلح جديد يُضاف إلى قاموس العلاقات الدولية، بل هي رؤية شاملة لعالم يبحث عن حلول جماعية لأزمات لا تستثني أحداً. إنها تعبير عن وعي متنام بأن البقاء لم يعد شأناً فردياً، وأن مصير الدول مرتبط ببعضه البعض أكثر من أي وقت مضى. ولهذا فإن الطريق نحو عالم أكثر استقراراً وأقل اضطراباً يمر حتماً عبر التعاون، وعبر تبني دبلوماسية تتعامل مع الإنسان قبل الجغرافيا، ومع المستقبل قبل الماضي. إنها الطريق الذي يمكن للعالم أن يسير فيه ليواجه أزماته بثقة، وليبني نموذجاً جديداً من العلاقات الدولية يستحقه هذا العصر المتغيّر.























التعليقات