لم أكن أتوقع وأنا المحبة جداً للقراءة، أن تختار يداي كتاباً يتحدث عن التعذيب وعن تجربة السجن، بل وأن أنهي الكتاب في وقت قياسي وأن يترك أثراً في نفسي لشدة دقة الوصف وصعوبة التفاصيل التي لا بد أنها لا تزال تتكرر ولكن في أزمنة وأمكنة مختلفة.

لم يكن عبد الرحمن منيف الأول في كتابة تجربة السجن أو التعذيب الذي يتعرض له السجناء في بعض السجون العربية، لكن كتابه "شرق المتوسط" تمكن من جعل القارئ يخوض تجربة نفسية واجتماعية صعبة للغاية، وهو الذي كتب في مقدمته:

"كتبت شرق المتوسط عام 1972 وقبل أن تُنشر لي أية رواية سابقة، ولما كنت غير متأكد بالقدر الكافي أن تصبح الكلمة الروائية وحدها طريقتي في التواصل مع الآخرين، نظراً لأن "الموال" السياسي كان لا يزال يرادوني في ذلك الحين، ولأن جرح حزيران كان ساخناً وكان يُفترض أن يكون الرد على الهزيمة عملاً سياسياً مباشراً وبالتالي اعتبرت الكلمة الروائية هدنة يعود بعدها كل إنسان إلى الموقع الذي يعتبره أكثر ملاءمة له، إضافة إلى جهلي أو عدم درايتي الكافية برد الفعل الذي قد ينجم عن كتابة رواية تتناول أحد أبرز المحرمات: السجن السياسي. "

في "شرق المتوسط" يتحدث منيف عن محاولة السجن أن يقتل جسد السجين، وإن لم يٌفلح السجن في ذلك فإنه يحاول قتل الإرادة لدى السجين. ويقول منيف إن الرسالة التي أرادتها الرواية "أن يكون على هذه الأرض شعب حر، لأن في حال وجود الحرية يمكن أن ينام الحاكم والمحكوم ملء الجفون".

كما دافع منيف في روايته عن الحرية وأنها تستحق "الثمن الباهظ"، ذاك الذي يدفعه المساجين دفاعاً عن آرائهم السياسية كما يقول.

اعتبرت الكلمة الروائية هدنة يعود بعدها كل إنسان إلى الموقع الذي يعتبره أكثر ملاءمة له
BBC
اعتبرت الكلمة الروائية هدنة يعود بعدها كل إنسان إلى الموقع الذي يعتبره أكثر ملاءمة له

ولم تكن "شرق المتوسط" العمل الأدبي الوحيد الباهر لمنيف، فخماسية "مدن الملح" التي تتحدث عن المجتمعات العربية الخليجية وتأثير اكتشاف النفط عليها كانت من بين أشهر أعماله، وما عزز اطلاع وقوة منيف في الكتابة عن ملف النفط هو خلفيته الأكاديمية حيث أكمل دراسته العليا في اقتصاديات النفط في بلغراد وعمله لاحقاً في شركة النفط السورية.

عبد الرحمن منيف، بين حب السياسة والرواية

يروي محمد القشعمي مؤلف كتاب ترحال الطائر النبيل وهو سيرة ذاتية كتبها عن عبد الرحمن منيف قول الأخير: "فبعد فترة قصيرة في العمل السياسي اكشتفت انني أخدع نفسي وأخدع الآخرين، ليس لأن السياسية مهنة رديئة بذاتها في المطلق وإنما لأن هذا النوع من السياسة كان أقرب إلى العبث، لأنه لا يستند إلى العقل وإلى معرفة الواقع وإلى خدمة الفقراء والمضطهدين ولذلك تمادت المؤسسة السياسية التي كنت فيها دون أسف وانصرفت إلى الهواية".

وُلد عبد الرحمن لعائلة سعودية - عراقية في التاسع والعشرين من مايو/ أيار عام 1933 في الأردن، ومن ثم تنقل في مدن مختلفة للدراسة والعمل إلى أن استقر إلى نهاية حياته في دمشق.

تلقى تعليمه المدرسي في الأردن ثم انتقل إلى بغداد لدراسة الحقوق وانتقل بعدها إلى القاهرة ومن ثم إلى بلغراد حيث درس العلوم الاقتصادية، عاد بعدها إلى بيروت وانُتخب عضواً في القيادة القومية في الستينيات لفترة وجيزة.

عمل بعد ذلك في الصحافة لعدة سنوات منها في بيروت وفي بغداد ثم انتقل إلى باريس في الثمانينيات وتفرغ للكتابة.. وهناك وُلدت "مدن الملح".

"أشهر رواة سيرة الجزيرة العربية المعاصرة"

حظيت خُماسية "مدن الملح" المكونة من "التيه"، "الأخدود"، "تقاسيم الليل والنهار"، "المنْبَتّ" و"بادية الظلمات" باهتمام القارئ العربي حتى ذهب بعض النقاد إلى وصف منيف بعد هذا الإنتاج بأنه أشهر رواة سيرة الجزيرة العربية.

تروي الخُماسية التغييرات التي طرأت على المجتمعات الخليجية خاصة في السعودية بعد اكتشاف النفط وكيف تحولت إلى مدن ضخمة وتأثير ذلك على حياة البداوة. وترجم العمل إلى لغات أجنبية عدة بعد أن حظي باهتمام واسع من القرُّاء.

يقول منيف:"كيف يمكن للأشخاص والأماكن أن يتغيروا إلى الدرجة التي يفقدون صلتهم بما كانوا عليه، وهل يستطيع الإنسان أن يتكيف مع الأشياء الجديدة والأماكن الجديدة دون أن يفقد جزءاً من ذاته؟"

أصدر منيف العديد من الأعمال الأدبية، فإلى جانب مدن الملح، وشرق المتوسط، أصدر رواية "الأشجار واغتيال مرزوق"، و"حين تركنا الجسر"، و"عالم بلا خرائط" بالاشتراك مع جبرا إبراهيم جبرا.

"وهو الآن يركض وراء لقمة العيش"

في رواية الأشجار واغتيال مرزوق، أبدع منيف في جعل القارئ يتعلق في جذور الأشجار فمن خلال شخصية إلياس نخلة، يجد القارئ نفسه على علاقة حب مع كل ما يتعلق بالأشجار، ويتعاطف مع أحلام نخلة البسيطة كفلاح يحلم بزراعة الأشجار في قريته الطيبة بدلاً من القطن.

وكذلك يتنوع النص في عرض شخصية أخرى في الرواية وهو منصور عبد السلام الأستاذ الجامعي الذي يترك بلاده بحثاً عن الحرية. فيقول عنه منيف:

"نعم، الحياة بطولة ولكن دون ضجة. بطولة صغيرة يمارسها الإنسان يومياً من أجل أن يظل صادقاً وشريفاً. أما الأفكار التي حلم بها منصور عبد السلام سنوات وسنوات، وتمنى أن تتحقق في حياته فقد تحققت بالفعل، ولكن بشكل آخر والنتائج التي يراها الآن تجعله حزيناً إلى درجة الجنون لأنه في هذه الأرض يسمّيها وطنه، رأى أشياء لم يكن يتصور أنها يمكن أن تقع.

لقد جاع منصور وتغرّب وتعب وهو الآن يركض وراء لقمة الخبز".

سيرة مدينة عمان في الأربعينات

وعلى الرغم من أصله السعودي العراقي، إلا أنه نشأته في الأردن دفعته لتأليف كتاب يتناول سيرة مدينة عمّان التي عاش فيها مع عائلته خلال الأربعينيات. ومن خلال شخصية جدته وعدد من الجيران يروي تفاصيل جميلة من ذاكرة المكان ومن الأحياء الأولى التي نشأت في العاصمة الأردنية.

يقول منيف: "والمدينة، أية مدينة، هل لها صورة واحدة يراها الجميع بنفس الطريقة؟ ثم، هل إن المدينة مجرد أماكن وأشياء وأسماء، وحتى بشر؟ وكل هذه، هل هي في حالة ثبات أم تتغير في كل لحظة؟ كما يعاد تشكيلها في الذاكرة مرة بعد مرة، خاصة والزمن يمضي، وتتدخل أسباب وعوامل كثيرة ومؤثرة؟"

عُرف منيف بالنسبة للكثيرين بأشد المفكرين الرافضين لأنظمة الكثير من الدول العربية، وتجسد ذلك في العديد من أعماله ولا سيما شرق المتوسط وكذلك في تنقلاته الكثيرة بين المدن إلى أن انتهى به المطاف في دمشق حيث أقام فيها إلى حين وفاته في يناير/ كانون الثاني عام 2004.