حديث ودي بين مجموعة من الطلاب وهم منهمكون في التعامل مع مقابس وأسلاك، وحماس واضح يسيطر على الأجواء في دورة تعليمية في التركيبات الكهربية في مكان تحيط به حقول الأرز يرسم صورة الريف الذي يسوده الاطمئنان والرضا والقناعة.

لكن خلف هذا المشهد تكمن حقيقة مزعجة.

شُيد هذا المركز للتصدي لظاهرة الأعداد التي توصف بالمروعة لحالات الانتحار في منطقة "ساحل اسكويبو" وأيضا في غويانا في أمريكا اللاتينية نفسها التي تشتهر بأنها صاحبة أعلى معدلات انتحار في العالم.

وتقول منظمة الصحة العالمية إن 44.2 من بين 100 ألف مواطن في غويانا يقدمون على الانتحار مقارنة مع متوسط عالمي يبلغ 16 شخصا.

تسليط الضوء

لعبت مؤسسة غويانا الخيرية التي أسست مركز "صن رايز" في منطقة "زورك اون فلايت" دورا رئيسيا في تسليط الضوء على ظاهرة الانتحار في بلد أعاقت فيه الوصمة التي تحيط بقضايا الصحة النفسية الجهود للتخفيف منها.

ويقول انتوني اوتار المدير العام للمركز إن غياب المرافق الرئيسية والتشريعات التى عفا عليها الزمن، التي مازلت تصف المرضى بأنهم "بلهاء" يعانون من "اختلال عقلي"، تمثلان بعضا من هذه العراقيل.

ويجرم القانون في غويانا الانتحار، وتصل عقوبته إلى السجن لمدة عامين، لكن ثمة إجراءات لإلغاء ذلك.

وقال أوتار لبي بي سي: "حينما ننظر في قضايا الصحة النفسية، فإننا ندرس أيضا قدرة الناس على المساهمة في المجتمع."

وأضاف: "تعلم مهارات مثل تنسيق الأزهار أو تقديم الطعام، يمكنها أن تحسن من إحساسهم (الطلاب) بقيمتهم ونظرتهم للمستقبل."

هناك من يعتقد أن الإقلال من التعرض للمبيدات الحشرية يساعد على خفض معدل الانتحار

وتشمل الدروس المجانية المتاحة لأفراد الجمهور في المركز الذي بدأ العمل في يونيو/حزيران الماضي صناعة الملابس وصباغتها وكذلك اليوغا. ومن المقرر أن يتم افتتاح المركز رسميا في 29 أكتوبر/تشرين الأول الجاري.

وتابع أوتار قائلا "نجد في أغلب الأحيان أشخاصا معزولين ولا توجد لديهم أي علاقات قوية مع الآخرين. إننا نشجع الطلاب على بناء صداقات مع بعضهمم البعض، وهذه العلاقات يمكن أن تساهم في إنقاذ حياة الشخص إذا شعر بالرغبة في الانتحار."

وتوجه الدعوة للمشاركين في هذه الدورات بالمركز إلى ملأ استبيانات لتقييم سلامتهم النفسية ثم يتم بعد ذلك تعريفهم على خدمات الاستشارات النفسية المجانية المتاحة بالمركز.

ويقول هايمراج هامانديو المستشار بالمركز إن هذا الجهد يمثل جزءا من نهج متبع لمعالجة الاكتئاب والتوتر وقلة تقدير الذات، والتخلص من هذه الوصمة من خلال تعريف الأشخاص بأن مثل هذه المشاعر "هي أمر شائع مثل مرض السكري".

وتتراوح أعمار أغلب المشاركين في المركز بين 25 و45 عاما، ويمثل النساء 75 في المئة منهم.

ويوضح هامانديو بأن "النساء أكثر انفتاحا لتقبل المساعدة. إنهن أيضا أكثر عرضة لمحاولة الانتحار، لكن الرجال لديهم فرصة أكبر للنجاح في ذلك (في محاولات الانتحار).

وتنقسم الآراء بشأن الأسباب التي تجعل غويانا على قائمة الدول من حيث معدلات الانتحار في العالم. وأشارت حلقة نقاشية نظمتها جامعة غويانا بمناسبة "اليوم العالمي لمكافحة الانتحار" في سبتمبر/أيلول الماضي إلى مشاكل العلاقات والاضطرابات السياسية والفقر وارتفاع معدلات الجريمة كعوامل رئيسية تساهم في ذلك.

ويمثل مواطنو غويانا، الذين ينتمون لأصول هندية، 80 في المئة من حالات الانتحار، بالرغم من أنهم لا يشكلون سوى 40 في المئة فقط من السكان في هذا البلد.

وينتمي سكان غويانا إلى ستة أعراق، وتتراوح أعمار معظم السكان بين 15 و34عاما، ويمثل الرجال بالنسبة للنساء تقريبا أربعة إلى واحد من السكان.

ويشكل الانتحار نتيجة التسمم جراء استخدام مبيدات زراعية 65 في المئة من الحالات، بينما يمثل الانتحار شنقا واحد من بين كل خمس حالات.

ويقول الدكتور بهيرو هاري، رئيس قسم الطب النفسي في مستشفى "جورج تاون" العام إن مقابل كل "حالة انتحار ناجحة" هناك نحو 25 محاولة انتحار أخرى لا تتم.

ينتشر الانتحار بين المجتمعات الريفية في غويانا

وأوضح أن "الكثير من مواطني غويانا من أصول هندية مزارعون، ولذا فإنه يمكنهم بسهولة الوصول إلى مبيدات قاتلة."

وأضاف "من الناحية الثقافية، فإن مواطني غويانا من أصول هندية مدللون"، وضرب مثالا بنفسه قائلا "لدي ثلاثة أطفال في العقد الثاني من عمرهم وجميعهم يعيشون في المنزل، ولا زلت أعد الإفطار لابني كل صباح. (لكن) مواطني غويانا من أصول أفريقية في الغالب يكون لديهم عائلات أقل تقاربا ويتعلمون كيفية بناء شخصية قوية وأكثر قدرة على التحمل."

وعلى العكس من ذلك، ترى أستاذة العلوم الاجتماعية بوليت هنري أن "التفكك الأسري" هو أحد الأسباب الرئيسية في زيادة حالات الانتحار في غويانا.

وبعد أن مرت بتجربة انتحار أثرت فيها بشدة جراء انتحار صديق مقرب لها، تحدثت هنري عن مشاعر الألم التي تؤثر على أسر وأصدقاء أولئك الذين يقدمون على الانتحار.

وقالت: "اعتصرني الحزن والألم والشعور بالفقدان والذنب، فنظرا لطبيعة عملي في المجال الاجتماعي شعرت بأنه كان يجب علي أن أتعرف على علامات (الرغبة في الانتحار التي كانت لدى صديقي)".

ووصف وزير الصحة العامة في غويانا جورج نورتون المستشفى الوطني للطب النفسي الموجودة في البلاد حاليا بأنها "لا تصلح للاستخدام الآدمي."

وأكد لبي بي سي أن الصحة النفسية تمثل "أولوية شخصية"، وأنه يجري حاليا إعداد خطة وطنية للوقاية من الانتحار تتضمن تدريب المزيد من الأطباء النفسيين وإنشاء مركز لإعادة التأهيل النفسي والاجتماعي.

وبالعودة مرة أخرى إلى مركز "صن رايز"، يقول هامانديو إن الانخراط في أنشطة "مثمرة" حقق نجاحا كبيرا في جهود الوقاية من الانتحار.

وأضاف: "الناس غالبا يكتشفون قدرات لم يعرفوا من قبل أنهم يمتلكونها، وترى تغييرا في طريقة تواصلهم مع الآخرين وطريقة استقبالهم لك إضافة إلى زيادة طاقتهم."

وتقول مديرة المركز سوبريا سينغ بودين إنه يتعين جمع نحو 3500 دولار شهريا في صورة تبرعات لإدارة المركز، وتعتزم إنشاء مراكز مماثلة في مناطق أخرى في غويانا.

وأضافت: "أشعر باكتئاب شديد حينما أقرأ عن حالات انتحار كل يوم، وأريد فقط أن أبث بعض الأمل بين الذين يعانزن الفقر وقلة الفرص".

وتابعت قائلة "إذا استطعنا أن نؤثر في حياة الناس بطريقة إيجابية حتى يتسنى لهم رؤية شروق الشمس من جديد، فيمكننا أن نقول في ذلك الحين إننا حققنا شيئا".