على مائدة في غرفة معيشة، قررت تينا (ليس اسمها الحقيقي) أن تحتفل بعيد الفصح على طريقتها، فجلبت شموعا وبيضاً ملونا بألوان الباستيل وصليبا خشبيا صغيرا.
وقبل أعوام، تحوّلت تينا هي وزوجها إلى الديانة المسيحية، ما يعدّ محظورا بالقانون في بلدهما إيران، حيث قد يتعرّضان للاعتقال في أية لحظة.
ويقرّ الدستور الإيراني عدداً من الأقليات الدينية. ويمكن للمسيحيين الأرمن والسريان أن يمارسوا طقوسهم الدينية، لكنهم محظورون من التبشير أو حتى من دعوة الإيرانيين للحضور إلى الكنائس.
وليس في استطاعة المتحولين إلى المسيحية من الإسلام أن يمارسوا طقوسهم الدينية في العلن بإيران؛ فهم يقومون بذلك سرًا فيما يسمى الكنائس المنزلية. وتينا من هؤلاء.
وتشدد السلطات في إيران قبضتها على أبناء هذه الطوائف الدينية، فتقوم بتوقيف الكثيرين منهم وتقضي عليهم بالحبس لفترات طويلة.
وفي ظل ذلك الوضع، رأى أعضاء الكنيسة من أبناء هذه الطوائف ضرورة التحوّط بمزيد من التدابير الوقائية.
في ذلك تقول تينا: "نحن نلتقي في مجموعات صغيرة، وفي كل مرة يكون اللقاء في مكان مختلف. وقد يكون ذلك في منزل أحد الأعضاء أو في حديقة أو في سيارة على الطريق".
وتضيف تينا لبي بي سي: "من عوامل الأمان أن تكون كل مجموعة على دراية قدر الإمكان بغيرها من المجموعات؛ بحيث إنْ واجهت إحدى هذه المجموعات مشكلة، تبلّغ غيرها فتتفادى الوقوع في المشكلة ذاتها".
وتؤكد تينا صعوبة العيش في تهديد دائم بانكشاف السرّ أو بالتعرّض للسجن. وأحيانا ما يتحدث أطفالها في المدرسة مع زملائهم عن أن والدَيهم مسيحيان. وحدث أكثر من مرة أنْ تلقّتْ تينا طلب استدعاء بالحضور من إدارة المدرسة لتستمع إلى توبيخ.
أما زوجها، الذي يعمل في شركة، فيتعرّض هو الآخر للابتزاز من قِبل أشخاص عرفوا سرّ تحوّله إلى الدين المسيحي.
ومع ذلك، تعُدّ تينا نفسها محظوظة لأنها لم تخضع للاعتقال حتى الآن، كما حدث لآخرين كثيرين.
وخضع مهدي (ليس اسمه الحقيقي) للاعتقال مرتين، وفي المرة الأولى لم يكن قد بلغ العشرين بعد.
ويقول مهدي لبي بي سي، إنه أودع في حبس انفرادي، وخضع لاستجوابات عديدة كما تعرّض للتهديد.
وكانت المرة الثانية التي تعرّض فيها للاعتقال وهو في عامه الرابع والعشرين، وقد تركت هذه المرة أثراً في نفسه.
يقول مهدي لبي بي سي: "أقمت في حبس انفرادي لأكثر من شهر. خضعت لاستجوابات مكثفة كانت تتطرق إلى تفاصيل دقيقة. لم نستطع أن نرى عائلتنا، كما لم نكن ندري إلى متى سيطول حبسُنا. في كل مرة كنا نسألهم، كان الجواب يأتينا بأنه لا داعي للقلق، وبأننا سنبقى هنا وقتا قصيرا".
والواقع أن مهدي بقي في هذا الحبس مدة ثلاثة أعوام – في تجربة يقول إنها أورثته كوابيس كثيرا ما تقضّ مضجعه.
ووُجّهت إلى مهدي اتهامات كثيرة، من بينها "تهديد الأمن القومي" – وهي جريمة سياسية تعني أنه لن يعود مرة أخرى إلى حياته الطبيعية إذا ما أُطلق سراحه.
يقول مهدي: "عندما تواجه اتهاما سياسيا كهذا، تصبح على الفور مواطنا من الدرجة الثانية أو الثالثة. أينما تذهب سواء للعمل أو للدراسة تحمل معك رغما عنك علامة سياسية تصير معها حياتك شديدة الصعوبة".
ويضيف مهدي بأنه كان دائما تحت المراقبة، وأنه يخشى الاعتقال مجددا في أية لحظة.
يقول: "كان الأمر صعبا على عائلتي. في كل مرة أخرج للتسوق، على سبيل المثال، يخشون ألا أعود".
وفي النهاية، أقنعته عائلته بالفرار من إيران والتقدم بطلب للجوء في تركيا المجاورة.
ومن العاصمة البريطانية لندن، تدافع منظمة خيرية تتخذ لنفسها اسم "المادة 18" عن المسيحيين في إيران.
وبحسب هذه المنظمة، تعرّض ما لا يقل عن 166 شخصا للاعتقال في إيران العام الماضي، مقارنة بـ 134 معتقلا في عام 2022.
كما ارتفعت قيمة الكفالات حتى باتت فوق طاقة الكثيرين، وكذلك مُدد العقوبات بالحبس أصبحت أطول.
ويقول مهدي إن المدة التي قضاها في السجن (ثلاث سنوات) كانت أطول مدة قضاها مسيحي في مدينته وقتذاك، أما الآن، فقد أصبحت مدّة حبس المسيحيين تصل إلى 10 أو حتى 15 عاما.
وفي ذلك يقول منصور برجي، المدير التنفيذي لمنظمة المادة 18 ومؤسسها لبي بي سي: "القمع والبطش بأي معارض هو سياسة يواصل النظام الإيراني اتباعها رغم ردة الفعل التي شاهدها".
وقامت السلطات الإيرانية بحملة من الاعتقالات ضد مسيحيين في الأشهر التي سبقت حلول الذكرى الأولى لمقتل مهسا أميني – الشابة التي لفظت أنفاسها في أثناء تحفّظ شرطة الأخلاق عليها، وكانت تهمتها عدم إحكام غطاء الشعر.
وفي مارس/آذار، خلص فريق أممي لتقصّي الحقائق إلى أن وفاة مهسا أميني كان نتيجة التعرّض لعنف جسدي في أثناء احتجازها، وعليه تتحمّل الدولة الإيرانية مسؤولية وفاتها.
ومع انتشار خبر مقتل مهسا أميني، خرجت تظاهرات غير مسبوقة في شوارع إيران. وأحرقت نساء شابات أغطية رؤوسهن في الشوارع، فيما قامت أخريات بالتصفيق وبالغناء والرقص.
وقد لقي ما لا يقل عن 551 متظاهرا حتفهم في ظل القمع الأمني، فيما تعرّض عشرات الآلاف للاعتقال. ونُفّذ حكم الإعدام في تسعة رجال، فيما ينتظر ستة آخرون المصير نفسه.
ولم تنجُ الأقليات الدينية من هذه الأجواء القمعية. ومع ذلك، بحسب منصور برجي، ظل الكثيرون يقاومون. وهذا بدوره يعني المزيد من حالات التحوّل عن الدين.
ويعيش في إيران عدد غير قليل من أولئك المحسوبين على الديانة الزرادشتية، التي تعدّ إحدى أقدم الديانات التوحيدية في العالم.
وقد نشأت الزرادشتية قبل ثلاثة آلاف عام في فارس، المعروفة الآن باسم إيران.
وكثير من أبناء الجيل الجديد في هذه الديانة يعتبرون أنفسهم ملحدين أو لا أدريين. وعبر 40 عاما أو أكثر من الدعاية، استطاعت الحكومة الإيرانية خلْق هوّة بين هذا الجيل الجديد ومعتقدات آبائهم. ويريد أبناء هذا الجيل أن ينتقوا لأنفسهم من بين اختيارات متعددة أمامهم – ومن بين هذه الاختيارات الديانة المسيحية.
وبالعودة إلى منزل تينا، التي تستعد للاحتفال بعيد الفصح، يشار إلى أن الشرطة الإيرانية عُرفت في الماضي بتنفيذ الكثير من حملات الاعتقال قبيل احتفالات الكريسماس وعيد الفصح، حتى اعتاد المسيحيون على ذلك.
تقول تينا: "لم نستطع أبدا أن نحتفل بالكريسماس أو بعيد الفصح في أيامهما الحقيقية؛ كنا نضطر إلى تغيير اليوم فيكون قبل أو بعد موعده ببضعة أسابيع".
التعليقات