منذ انطلاق ما يسمى (الربيع) العربي، وما تلاه من تداعيات ونتائج شكلت خليطاً كارثياً كاد ينذر بسقوط محتم للأمة العربية والإسلامية سواء بسواء، ظل الأمير الحسن بن طلال يوجه الرسالة بعد الأخرى من خلال نوافذه العربية والعالمية المتاحة في محاولات لتحديد الداء واجتهادات لوصف الدواء.

نصر المجالي: الأمير الهاشمي المفكر الحسن بن طلال، مؤسس منتدى الفكر العربي وراعيه العام 1981 والشخصية العالمية المؤثرة في (حوار الأديان) لامس في عرضه للكثير من القضايا العربية والإسلامية الساخنة تهديدات الأمن الفكري والصدام بين التيارات الفكرية وجدليات الهوية وأزمات الاغتراب وحالة الضعف والوهن والانهيار واتساع نطاق الصراعات الأهلية، وصعود التوجهات التكفيرية والنزعات الطائفية والتفكك القيمي والمجتمعي.

والحسن بن طلال في كل ما كتب، وقال عبر المنتديات العديدة وبكل اللغات الحية، يركز على استراتيجيات فاعلة متكاملة لمواجهة التهديدات الفكرية المتصاعدة وغير التقليدية المستمرة.

الإرادة الحرة

ظل الأمير الحسن بن طلال المؤلف لأكثر من سبعة كتب والعديد من المساهمات البحثية والمناظرات يرى أن الإرادة العربية الحرة المسؤولة لا تنفصل عن تغليب العقل والحكمة، كما أنها تنسجم مع القيَم الإنسانية المشتركة التي يؤدي التمسك بها إلى تحقيق الأمن للجميع.

وهو يؤكد أن البحث في هذه القيم المشتركة يسهم في كشف الوجه الحقيقي للتطرف، وفي إطار هذا المسعى، يقول الأمير: نحن بحاجة إلى التركيز على المشتركات العالمية والإقليمية، وتفعيل دور المؤسسات الإقليمية والعربيّة، التي تحمل أولوياتنا وتحدّد معالمها بصورة مستقلة.

وحين يتكلم عن الآتي، يكاد الحسن بن طلال يجزم أن مستقبل العمل العربي يكمن في فضاء يدعم التعاون والتكامل بين دول الإقليم وشعوبه "فما نعانيه اليوم من أعراض الوهن على الصعيد الحضاري يؤكد الحاجة إلى التجدّد في مختلف الميادين وتعزيز ثقافة العمل والمشاركة والإبداع والإنجاز".

ومرة سألت شبكة (سي إن إن) الأمير الحسن عن انطباعه عن المرحلة التي وصل الحال إليها في الإقليم وما هو السوء الذي وصلت إليه الأمور؟، فقال: "لم أرَها أبدا مزينة بالأمل والفرص الثمينة خصوصًا مع سقوط جميع الأقنعة والوقائع المريرة المحيطة بشعوب تستحق حياة أفضل من النواحي النفسية والاقتصادية والاجتماعية وتنتظر أي فرصة لتحسين ظروفها، ولكن في الوقت ذاته لم أتوقع أن أراها منقسمة بهذا الشكل اليائس على يد جماعات مسلحة تستغل الفرص الموجودة لتسعى إلى هدم كل الأسس القائمة".

أحدث ظهور

في الأسبوع الماضي، وفي أحدث ظهور أجرت قناة (روسيا اليوم) في مقرها في العاصمة البريطانية لندن، مقابلة تلفزيونية مع الامير الحسن بن طلال تحت عنوان (العالم العربي.. الواقع والآفاق).

المقابلة تناولت التحديات والأوضاع التي تعيشها المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج، حيث تواجه وضعاً صعباً في مرحلتها التاريخية وذلك بسبب ما أفرزته ثورات الربيع العربي وما أحدثته من شرخ في العلاقات العربية ناهيك عن انتشار التنظيمات الإسلامية المتطرفة، وما تشكله من خطر حقيقي على العرب ومستقبلهم.

جملة من المحاور الساخنة أجاب عنها الأمير الحسن: "أين يقف العرب اليوم، وما هي السبل المثلى لمواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية"، في إطار المقابلة التي أجراها الإعلامي حسن زيتوني.

في حديثه الأحدث، أعاد الامير الحسن إلى الأذهان ما كان قاله لمرات عديدة من قبل وهو أن العرب فقدوا الرؤية النهضوية التي كانت في يوم من الايام سببًا في قيام العرب تاريخيًا بدور فاعل حضارياً وهو يؤكد: "لا تنكر كتب التاريخ دور العرب ولكن آن الآوان أن يسذكروا أن ثقافتهم ودينهم واديانهم صالحة لكل زمان ومكان".

موتى قلوب

وهنا يؤكد راعي منتدى الفكر العربي أن النهضة العربية سائرة في عروق البعض منّا ولكن البعض موتى قلوب، وأحد الأسباب هو اليأس والحرمان، أما السبب الآخر، هو من أستغل هذا اليأس والحرمان لإقامة مجتمع اقتصاد وخطاب مجتمعي بديل هو مجتمع الكراهية، واعتقد أن هذا السبب يجمعنا مع كثير من الدول في هذه الايام.

ويضيف الأمير الحسن أن احتكار الحقيقة وغياب العدالة الاجتماعية، فكلنا نعلم أن الربيع العربي قام على اساس العدالة الاجتماعية والانصاف، ثم تحول في ما بعد ضد الانظمة القائمة ومن ثم عدنا الى المعادلة القديمة " ديموغرافية، ديمقراطية وديموغوجيا".

&ويؤكد أن المشكلة الحقيقية تكمن في غياب المحتوى في خطابنا، لقد آن الأوان أن يكون المحتوى ثقافيًا، علمياً، عرفياً، وهنا علينا أن نعترف بغياب القاعدة الاحصائية لمعظم شعوبنا وكذا الحال بالنسبة لنظرتنا للمستقبل وما هي الطموحات المشروعة؟

الهوية السنية

وفي المقابلة، ألمح الأمير الهاشمي إلى ان هناك تنافساً إقليمياً حول موضوع الهوية السنية في الاقليم حين يقول: "نرى أن ما يسمى بافرازات (سلالات جينية) تتمثل بالمجاهدين، طالبان، القاعدة، وداعش" ومقابل ذلك، الجميع يحاول في الاقليم، وكذلك الحكومات للسعى الى طمأنة العشائر السنية بأن السكان السنة بخير.

لكن الأمير الحسن يوضح من جانب آخر، أن الدول في الاقليم متناقضة في مواقفها، فهي ساعة تتحدث عن القصف في المناطق السنية شمالاً عراقيًا وسوريًا، واخرى تتحدث عن قصف الزيدية في اليمن، كما نرى ان هناك قصفًا معاكسًا واعتداءً من قبل القاعدة وما يسمى بالدولة الاسلامية، واحيانا نرى تقمصاً لشخصية جديدة وهي جبهة (النصرة) على سبيل المثال او الجيش السوري الحر.

وهنا يشير إلى أن التدريبات القائمة للمعارضة السورية أو غيرها في الإقليم ككل تجري بحسب التحالفات الاقليمية الموجودة في ظل غياب النظرة الشاملة للاستقرار الاقليمي.

حل إقليمي

وحول تأثيرات أزمة اللجوء السوري وانعكاساتها، وما هو الموقف الاردني حيال ذلك؟، دعا الأمير الحسن إلى ضرورة ايجاد حل اقليمي من حيث التركيز على الاستقرار الاقليمي بصورة متصلة، لافتًا الى أنه من الصعب ان تعالج قضية حلب على حساب الموصل او قضية الموصل على حساب الحدود التركية أو على حساب الاتفاقية المتوقعة بين الولايات المتحدة وايران حول البرنامج النووي، فكل هذة الامور متداخلة ، ولكن حقيقة الأمر إننا في الأردن كدولة جوار نعاني من افرازات هذه الازمات.

ويلفت الأمير الحسن في هذا المجال أيضاً، إلى تأثيرات الازمة السورية على الاردن ولبنان كدولتين تتحملان العبء الاكبر ملمحاً إلى " وكأنما هناك تفتيت واضح للاقليم، شبه سيادة، اشباه دول، وربما هذا التفتيت هو مرتبط اساسًا في الممرات المائية الآمنة مثل باب المندب، السويس، ومضيق هرمز، والبعد الاخر هو ان لا تكون المجتمعات القريبة من النفط والغاز آمنة".

انزلاق طائفي

وأعاد الأمير الحسن بن طلال التأكيد على أن المنطقة على مفترق طرق اما ان نكتشف التنوع والتعدد في ما بيننا من جديد او نستمر في هذا الانزلاق الفئوي والطائفي الذي سيودي بهويتنا العربية والاسلامية. ونوه الى أن التحالفات لا تراعي بالضرورة الحساسيات الخاصة في امر ما ، مشيرًا الى انه في ستينيات القرن الفائت كان للاردن دور في اليمن عندما تدخل الرئيس جمال عبدالناصر في اليمن.

وأكد أن القيادة العسكرية الاردنية على وعي تام عندما نتكلم عن أهداف عسكرية في اليمن، وهنا يستدرك الأمير قائلاً: "إن الإستمرار في هذه الازمة ليس في صالح الهوية العربية، كما أن مثل هذه الصراعات تخلق عداوات ستبقى الى الأجيال القادمة".

ونبه في هذا المجال إلى دول في الجوار العربي مثل إيران وهي ذات اعتبار كبير في الاقليم وكذلك تركيا واسرائيل التي ليست دولة اسلامية ولكنها تضم نسبة كبيرة من سكانها من اصول عربية، فلسطيني 48 و 67، وهي دولة ذات شأن ناهيك عن الولايات المتحدة ودورها.

الخطاب الديني

ويؤكد الحسن بن طلال أنه في ظل مثل تلك الظروف ليس من مصلحة العرب في ان يستمروا في العداء لا السني الشيعي ولا العجمي العربي.

وهنا يوجه دعوة لتنقية الخطاب الديني من الكراهية المتبادلة خاصة في ما بيننا، مؤكداً أن موضوع الفتنة لن يعالج الا بالشورى التي يجب أن يتم في مكة المكرمة، والا ما الفائدة من هويتنا الاسلامية اذا لم نتشاور بيننا كزيدية، جعفرية، مالكية، شافعية، حنفية، وأباضية، "لقد آن الآوان أن نتحول من القول الى الفعل، أين دور الزكاة العالمي وأين دور الإحسان والبر على سبيل المثال في هذا الشهر الفضيل، رمضان؟".

النخبة العربية

&وعلى صعيد مهم، يجيب الأمير الحسن بن طلال عن سؤال مثير عن دور النخبة العربية ولماذا لا يتم استدعاؤها؟، بالقول: العرب يتم ابتزازهم نفطياً، وهو ابتزاز العرب يكمن من حيث نقاط الغلق كما يمكن تسميتها "السويس، باب المندب ومضيق هرمز"، وابتزاز العرب من حيث ثرواتهم التي تستثمر خارج الوطن العربي، "وهذا مسلسل لا بد من نهاية له، والنهاية لا بد ان تنتهي الثروة التي تحت الارض".

&ويؤكد على هذا الصعيد، أن ثروتنا الحقيقية كعرب هي فوق الارض، رأس المال الحقيقي العربي هو الانسان العربي المهيّأ، لننظر إلى الملايين الذين هاجروا إلى الاميركيتين، والى الملايين الذين حرموا من فرصة المشاركة نتيجة لغياب الإعتراف بالازدواجية في الجنسية، أقول آن الاوان أن ننشّط الرؤية العربية لنستطيع أن نجاري الآخرين.

حاكمية رشيدة

ويضيف: لا اعرف دولة من الدول ليست مشغولة في يومياتها تستطيع أن تفكر خارج مضمار الحكم، نحن بحاجة الى حاكمية رشيدة التي تشجع الفكر المستقل، وهنا نلتقي على اساس تصور المستقبل، السرد التاريخي لا يفيدنا، لا بد من أن يؤخذ التاريخ كوازع لتحريك مخيلتنا أين اخطأنا، وأين نستطيع أن نتمكن من التحسين في المستقبل.

ولكن لماذا يركز العرب على علاقاتهم مع العالم الخارجي على دول قوية مثل الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا، ويغضون الطرف عن علاقات قوية مع دول اخرى قد تكون صغيرة، ولكنها كبيرة في تجربتها التنموية في ثقافتها، ودول قوية مثل الصين وروسيا، ولماذا لا يوسّع العرب افاق نظرتهم للعالم الخارجي.

يقول الحسن بن طلال: عندما نقول العرب شرق السويس، أعتبر أننا آسيويون، لكن هل لنا ان نتعامل مع الهند والصين وروسيا على اساس التعامل والتكامل من البلقان شمالا والبلطيق الى بحر العرب ومن شنغهاي الى لشبونة؟، اعتقد ان هذا هو مستقبلنا، ولكن أن نسمع لهذه الدول في ان تقيم الأنانيب والطرق وسكك الحديد ونبقى متفرجين، حقيقة الامر إننا نفقد المبادرة ونفقد حقوقنا في معادلة واحدة.

ومرة ثانية، يؤكد الأمير أن غياب الحاكمية الرشيدة وغياب أداب المجلس، أحد أسباب الضعف، فالعداوة ليست عداوة العرب مع الآخر في طار اوروبا واميركا والدول القوية، بل هي عداوتنا لبعضنا البعض داخل الحي الواحد والاقليم الواحد وغياب المشتركات التي يجب أن تجمعنا كـ"المياه الطاقة والبيئة الانسانية".

ولفت الحسن بن طلال في هذا المجال إلى أن بابا الفاتيكان تحدث في بداية رمضان عن وجوب العمل كمسلمين ومسيحيين، لكن اليوم نرى ان التفجيرات في هذه الفترة حالت حتى دون درجة من الهدوء والسكينة خلال الشهر الفضيل، "المشكلة في أننا لسنا اصدقاء مع بعضنا البعض ولسنا صفًا واحدًا واذا استمرينا على هذا الشكل لا وجود لنا".

الفكر التكفيري

وإلى ذلك، يرى رئيس راعي منتدى الفكر العربي أنه آن الآوان أن نتبنى التفكير الموضوعي في تعاملنا مع بعضنا البعض في مواجهتنا للإرهاب، فالامين العام لجامعة الدول العربية يطالب بخارطة جديدة لمواجهة الإرهاب، وأنا أقول الإرهاب بكافة اشكاله سواء كان من الدول أو الجماعات، وأن لا نستمر في تكفير بعضنا البعض وان نفهم ان قضية التعصب ليست مقتصرة على اتباع ديانة أو ثقافة واحدة في هذا العالم ، هنالك اشكال من التعصب في اسرائيل حيث هناك ما يفوق أي تصور في نكران الآخر.

ويؤكد الأمير الحسن على أنه أن نتقبل في ما بيننا فكرة وجوب نزول المسجد الى مستوى الشارع، بمعنى القدوة الحسنة الانمائية الاجتماعية والأخلاقية، وهنا لا بد من التساؤل عن التوجيه الديني الذي ينقذنا من المآسي، أين مشاهد النبعة والكرانتينا أيام الحرب الاهلية في لبنان، مسلمين ومسيحين، يعملون مع بعضهم البعض في مواجهة الرعب والإرهاب؟.

وفي الختام، يؤكد الحسن بن طلال على أهمية التعامل مع جميع القضايا عبر مؤتمر اقليمي، وهنا نبه إلى دعوة موسكو لمثل هذا المؤتمر الإقليمي، ويضيف: لماذا لا نتحدث عن مؤتمر سلمي في العام 2018 ونبدأ جزئياً بالتعامل مع الأمن الانساني، وقضية أسلحة الدمار وما يختص عمليًا في كل اشكال الاسلحة الدمار، بما ذلك القنبلة القذرة، وموضوع الإرهاب، وكذلك العنف ومستنقعات التفكير العنيف، ثم يتعين علينا أن نتعامل مع الامن الانساني بشكله الكامل والشامل.