بالكاد كان الزورق صالحا للإبحار أصلا، إذ حُمل برجال ومعدات أكثر من طاقته.
ولسبعة أيام بلياليها، حاول طاقمه جاهدا إبقاءه عائما وسط الأمواج العاتية إلا أن المياه كانت تتسرب اليه.
كان كل الرجال الذين يستقلون الزورق تقريبا يعانون من دوار البحر أو الضعف نتيجة العطش والجوع.
وأخيرا، وبعد الموعد المحدد بيومين، وعلى مسافة عدة أميال من المكان المحدد، وجد الزورق نفسه غارزا في طين الشاطئ الكوبي.
وكما قال تشي غيفارا لاحقا، لم تكن العودة المظفرة المفترضة لفيدل كاسترو وقوته الثورية إلى التراب الكوبي "إنزالا بل تحطما."
نزل إلى البر الكوبي ذلك اليوم من على ظهر الزورق "غرانما" 82 رجلا، كلهم كانوا في منكسري العزيمة وحالة رثة.
ولم يمض وقت طويل حتى زادت الحالة سوءا، إذ تعرض الثوريون لكمين نصبته لهم القوات الكوبية على سفح في سلسلة جبال سييرا مايسترا، ولم ينج من الكمين إلا حفنة من المقاتلين منهم فيدل كاسترو وشقيقه الأصغر راؤول.
ولكن، ومن تلك البداية البائسة، تمكن الثوار في نهاية المطاف من دحر نظام فولجينسيو باتيستا العسكري الذي كان يحكم كوبا آنذاك.
وكانت الحملة التي قادها كاسترو ضد 40 ألفا من جنود باتيستا المزودين بأسلحة أكثر تطورا بكثير من تلك التي كانت لدى الثوار، واحدة من أنجح حروب العصابات التي شهدها القرن العشرون.
ولكن الأكثر إثارة للدهشة هو تمكن الشقيقين من التمسك بالسلطة في كوبا الى الآن، فقد قضيا في الحكم نحو 60 عاما. واستطاعا في تلك الفترة ترك بصمة لا تمحى على البلاد التي حولاها الى نظام شيوعي.
ولكن كوبا تقف الآن على مفترق طرق. فقد توفي والد الثورة فيدل في اواخر عام 2016، وقرر خلفه راؤول التنحي طواعية عن الحكم. وللمرة الأولى منذ عام 1959 يوشك أن يحكم كوبا شخص من غير آل كاسترو.
والآن، وبعد عقود ستة، ما هو شكل البلاد الذي سيورثانها للرئيس الجديد؟
بيران
عندما وصل الكاسترو الثالث العجوز لحظاته الأخيرة، حق له أن يفخر بحياة طويلة ورضية.
ورغم ضعف جسده وهزاله، فقد بقي واعيا تماما حتى النهاية التي جاءته وأولاده وأحفاده المحبين يحيطون بفراشه.
كان عنيدا - مثل أخويه - ومقاتلا حتى النفس الأخير. وحاول الأطباء إنقاذ حياته لتسع ساعات، ولكنهم أخفقوا في نهاية المطاف.
كان ذلك هو مارتن كاسترو، الأخ غير الشقيق لفيدل وراؤول، وقد توفي في أيلول / سبتمبر 2017 على مسافة قريبة جدا من مسقط رأسه في بلدة بيران الكوبية.
كان مارتن يبلغ من العمر 87 عاما، وتوفي بعد عام واحد من وفاة أخيه الأكبر فيدل.
ورغم أن للرجلين أبا واحدا، وكانا يلعبان معا في طفولتهما، نحت حياتهما منحيين مختلفين تماما.
فبينما أصبح واحد منهما زعيما للثورة الكوبية، لم يترك الثاني مسقط رأسه قط.
قاد فيدل كاسترو، الذي كان رمزا كبيرا من رموز الحرب الباردة بين الشرق الاشتراكي والغرب الرأسمالي، كوبا لخمسين عاما تقريبا تمكن خلالها من تأسيس نظام شيوعي في جزيرة لا تبعد عن البر الأمريكي الا بـ 90 ميلا - أو كما قال، "تحت أنوف الامبرياليين مباشرة."
مُنح مارتن المغمور بعد انتصار الثورة في عام 1959 فرصة الانتقال إلى هافانا والعمل بوظيفة حكومية. ولكنه رفض العرض. فمارتن الرجل البسيط كان يجد متعة أكبر بين حيواناته وحقول قصب السكر في مسقط رأسه.
تقول جوزيفا بياتريز، ابنة مارتن، والحزن ما زال باديا على محياها، "أقول لنفسي بين الفينة والأخرى، يا ترى ما الذي كان سيحصل لو كان والدي قد انضم الى فيدل. ولكنه لم يرغب بذلك قط."
وقالت بحب وهي تتلمس صورة والدها، "لم ينل والدي أي تعليم، ولكنه كان يماثلهما - فيدل وراؤول - في الذكاء." وفعلا بدا الشبه في الصورة مذهلا، خصوصا مع راؤول.
حول منزل أسرة كاسترو، فينكا لاس ماناكاس، إلى متحف ويعد رمزا لجذور فيدل وراؤول الريفية.
قادني مؤرخ البلدة، انطونيو لوبيز، في جولة حول المنزل/المتحف، وقال لي إن بيران تعد البلدة التي شيدها كاسترو.
جاء آنخيل كاسترو، والد فيدل، إلى كوبا للمرة الأولى في العقد الأخير من القرن التاسع عشر قادما من منطقة غاليسيا (جليقية) شمال غربي اسبانيا. كان آنخيل جنديا مكلفا في الجيش الذي أرسل إلى كوبا للدفاع عن الحكم الاستعماري الإسباني خلال الحرب الاسبانية - الأمريكية التي كانت مستعرة آنذاك.
وعندما عاد آنخيل الى كوبا بعد نيلها الاستقلال بفترة وجيزة في عام 1898، عمل في المناجم ومن ثم في حقول قصب السكر التي تمتلكها شركة United Fruit Company الأمريكية العملاقة.
وبحلول عام 1910، كان آنخيل قد بدأ مسيرته نحو الثراء. فقد اشترى قطعة أرض زراعية صغيرة عند الساحل الشمالي لكوبا بين مدينة سانتياغو دي كوبا وخليج نيبي.
وشيئا فشيئا، تمددت مزرعته حتى أضحت مقاطعة تشبه الكثير من مثيلاتها في تلك الحقبة تضم مدرسة ومتجرا وحانة ومحل حدادة وأكواخا لسكنى عمال حقول قصب السكر وغابات الخشب الهايتيين.
أراني أنطونيو الصف الدراسي الصغير الذي درس فيه فيدل قبل أن يرسل لاكمال تعليمه في مدارس الآباء اليسوعيين في سانتياغو وهافانا.
وعندما كنا نطلع على الصف الدراسي، سمعت دليلة تكرر الرواية الرسمية لوفد سياحي، وهي الرواية القائلة إن الظروف البائسة التي كان يعيشها عمال القصب الهايتيون تركت انطباعا لدى فيدل وراؤول لم يمحه الزمن.
قال المؤرخ أنطونيو، "قال فيدل مرة إنه سعيد لأنه كان ابن مالك ارض وليس حفيدا له، ولم يتأثر بذلك بفكرة الحظوة والامتياز."
لم يشهد آنخيل انتصار الثورة الاشتراكية ولم ير ولديه وقد اصبحا أكثر رجلين في البلاد نفوذا. فقد توفي في عام 1956، ودفن - الى جانب لينا والدة فيدل وراؤول - في فينكا لاس ماناكاس.
سانتياغو
بعد رحلة قصيرة بعبارة مزدحمة تنقل الركاب والبضائع من سانتياغو الى جزيرة كايو غرانما وبالعكس (مقابل بيسو واحد، أي 5 سنتات أمريكية)، التقيت في الجزيرة بروزا كاريداد فالفيردي التي تجاوز عمرها الـ 70 وهي من سكان كايو غرانما وتعشق العيش فيها.
تعاني روزا من ارتفاع ضغط الدم، ولكنها تصر على أن الأمر ليس خطيرا مضيفة أنها ذاهبة لمراجعة عيادة طبيبة المنطقة لاستلام وجبة جديدة من حبوب الضغط.
كانت روزا جالسة في الظل خارج العيادة بانتظار الطبيبة كلارا لواسيس التي كانت تعتني بمراجعيها في العيادة النظيفة.
التقيت بالطبيبة البالغة من العمر 50 عاما، والتي تشعر بالفخر للعيش وسط المجتمع الذي تخدمه، وهو الأمر الذي قالت إنه أساسي لمبدأ العناية الصحية الأولية في كوبا.
قالت الطبيبة، "يعيش هنا 651 نسمة، وعندنا زورق سريع لنقل الحالات الطارئة والنسوة اللواتي يوشكن على الوضع الى البر، ولو اننا انقذنا حياة العديدين هنا في الجزيرة بانفسنا."
من جانبها، عبرت روزا عن امتنانها للخدمات الصحية المتوفرة لها. وقالت، "إن اعظم شيء لأي بلد ليس الغذاء أو اللباس، ولكنه توفر التعليم والعناية الصحية. ونحن على هذين الأمرين بالمجان."
وهذان هما الدعامتان الأساسيتان للثورة الكوبية، وهما الانجازان الاجتماعيان اللذان اصبحت كوبا تعرف بهما في عهد الأخوين كاسترو.
عندما سألتها عن الأمر الذي تريده أكثر من أي شيء آخر من خليفة راؤول كاسترو، أجابت بحذر، ولم تكن مستعدة لقول أكثر من أن البيروقراطية ما زالت تمثل عائقا في كوبا وأنه ليس من اليسير العيش بمرتب لا يتجاوز 35 دولارا أمريكيا في الشهر. الا أنها اضافت، "لكن مرتبي ارتفع اكثر من معظم الناس في السنوات الأخيرة."
وأكدت على ضرورة رفع العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على كوبا، وهو أمر تسمعه اينما ذهبت في كوبا. فالكوبيون يحملون العقوبات الأمريكية - أو "الحصار" كما يصفونها - والتي مر على فرضها 58 عاما، مسؤولية الركود الاقتصادي الذي تعاني منه بلادهم.
ورغم أن النظام الصحي في كوبا ليس مثاليا، فعلى سبيل المثال يتعين على أسر المرضى توفير الوسائد والملاءات - وأحيانا حتى الطعام والعقاقير الأساسية - التي يحتاجها مرضاهم الراقدون في المستشفيات، تقول الطبيبة كلارا إن قليلا من الشعوب في باقي دول أمريكا اللاتينية تستطيع الاعتماد على العناية الطبية المجانية التي يوفرها الأطباء الكوبيون.
وتغدق منظمة الصحة للأمريكتين المديح على النظام الصحي في كوبا، وعلى الأخص نجاحه في مكافحة الأمراض المعدية.
عند عودتي إلى البر الكوبي من جزيرة كايو غرانما، زرت المكان الذي اندلعت فيه شرارة الثورة، المكان الذي انطلقت منه أولى العيارات التي أدت في نهاية المطاف الى الاطاحة بنظام باتيستا، معسكر مونكادا.
ففي الـ 26 من تموز / يوليو من عام 1953، قاد فيدل وراؤول محاولة انقلابية غير مخطط لها بشكل متقن في سانتياغو ضد نظام باتيستا الوحشي بمهاجمة ذلك المعسكر.
سحقت المحاولة الانقلابية في غضون ساعات قلائل، واعتقل منفذوها وعذبوا، وكان الشقيقان كاسترو محظوظين إذ لم يكونا ضمن المعتقلين.
وحال تسلمهما السلطة، حول الشقيقان المعسكر الى مدرسة. أما اليوم، فيحتوي الموقع على عدة مدارس تحت سقف واحد، إضافة إلى متحف يخلد المحاولة الانقلابية.
التعليم
الى جانب النظام الصحي، يعد التعليم مصدر فخر كبيرا آخر في كوبا. فقد نجحت البلاد في القضاء على الأمية في أريافها في أوائل الستينيات، كما تعترف منظمات دولية عديدة بالتزام الحكومة الكوبية بالتعليم العالي والبحوث العلمية.
ففي أوائل القرن الحالي، توصلت دراسة اجراها البنك الدولي حول أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي الى أن كوبا تأتي في المرتبة الأولى في تدريس مادتي الرياضيات والعلوم في كل المراحل الدراسية للطلاب والطالبات. ووصفت الدراسة المعاهد الكوبية بأنها "مساوية" في مستواها لتلك التي في العديد من الدول الاعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية.
وما زال التعليم يعد مبدأ ثابتا واساسيا للثورة الكوبية، ولكن قطاع التعليم يعاني اليوم من شح الموارد ونقص في عدد المدرسين. ويبدو أن عددا كبيرا من المدرسين تركوا مهنة التعليم مؤثرين العمل في القطاع الخاص، حيث يمكنهم تقاضي في يوم واحد - من تأجير الغرف للسائحين أو اعطاء الدروس الخصوصية - مما يتقاضون في شهر كامل في المدارس الحكومية.
يصطف التلاميذ في صفوف منتظمة في فناء مونكادا الى جانب لوحة وضعت في المكان الذي رميت فيه جثث الثوار الذين قتلوا في محاولة 1953 الانقلابية.
تصرخ احدى التلميذات مخاطبة زملاءها، "يا رواد الشيوعية!"، فيجيبونها بصوت عال، "سنكون مثل تشي!"
هذا هو الشعار الذي يردده التلاميذ كل صباح في كل أرجاء كوبا، ويعبر عن التزام ازلي بالمبادئ الاشتراكية التي يجسدها تشي غيفارا.
بعد انتهاء مراسم ترديد الشعار، دخلنا احد الصفوف للاطلاع على التلاميذ وهم يتلقون دروسهم.
قيل لنا إن بامكاننا التحدث الى التلاميذ، ولكن من خبرتنا فإنهم لن يرددوا الا الشعارات الثورية خصوصا تحت انظار مدرسيهم الحذرة. ولذا قررت بدلا من ذلك التوجه بالسؤال الى مديرة المدرسة. سألتها عما تقوله للمنتقدين - وخصوصا اولئك الكوبيين المعارضين في ميامي بالولايات المتحدة - الذين يدعون بأن الخطاب الثوري السائد في المدارس الكوبية لا يتعدى التلقين القسري.
قالت المديرة إلين إنفانتي، "من العبث الادعاء بأننا نغسل أدمغة التلاميذ هنا. إن ثورتنا ثورة انسانية، ونحن مهتمون بمصلحة كل الأطفال هنا. هذا هو سبب مجيئنا الى العمل، فنحن لا نريد تحويلهم الى متشددين بل لاعدادهم للمستقبل وجعلهم رجال ونساء جيدين يخدمون مجتمعهم."
سييرا مايسترا
عمل دون مانولو في الفلاحة حتى بلغ من العمر 90 عاما ولم تعد ركبتاه تتحمل المزيد.
قضى مانولو جل حياته في زراعة البن في جبال سييرا مايسترا، ولكن قبل عامين أجبرته وطأة السنين على اعادة سندات ملكية ارضه الى الدولة لقاء راتب تقاعدي.
قال لي وهو يتكئ على عصاه ويعتمر قبعة لوقاية نفسه من اشعة شمس الكاريبي الحارقة، "في البداية كنا نعمل دون أن تكون لنا ملكية الأرض."
وكان مانولو قبل الثورة يعطي ثلث محصول الأرض لمالكها، ولكن في أحد الأيام ظهرت مجموعة من الرجال الملتحين في المكان.
وقال، "الكثيرون منا أرادوا المشاركة في القتال، ولكن فيدل قال إنه يتعذر على جميع الفلاحين الانضمام الى جيش الثوار لأن الجيش يحتاجنا لانتاج الغذاء. ووعد الثوار مانولو وغيره من الفلاحين بأنهم سيحصلون قريبا على أراضيهم الخاصة.
كان مانولو يبلغ من العمر آنذاك 33 عاما، أي نفس عمر فيدل، وشاءت الأقدار أن يلتقي الرجلان بعد مرور شهور قليلة عندما عاد قائد الثورة الى المنطقة ليوزع سندات الأراضي على الفلاحين.
فبموجب قانون الاصلاح الزراعي الذي اصدرته السلطة الجديدة، صودرت كل الاقطاعيات التي تجاوزت مساحاتها قدرا معينا، واعيد توزيعها على شكل قطع صغيرة للفلاحين او حولت الى مزارع تعاونية تديرها الدولة. وأممت الأراضي التي كان يمتلكها الملاكون الكبار - سواء كانوا كوبيين أثرياء أو شركات اجنبية مثل شركتي كوكا كولا و United Fruit Company.
ومنعت سلطة الثورة تملك جهات أجنبية لمزارع قصب السكر، وهو من أول القرارات التي أثارت عداء الولايات المتحدة. ويقال إن كاسترو أمر بمصادرة حتى جزء من املاك أسرته في فينكا لاس ماناكاس، مما أثار حنق والدته وغضبها.
وما زال قانون الاصلاح الزراعي يعتبر اساس النموذج الزراعي الكوبي.
قال مانولو مستذكرا، "أقمنا حفلا كبيرا تخللته مسيرة خيل في كاني دي لاس مرسيدس في اليوم الذي وزعوا علينا سندات الأراضي. كنا سعداء لأنه لم يعد بمستطاع أحد طردنا من الأرض."
يعد الطقس السائد عند سفوح جبال سييرا مايسترا مثاليا لانتاج البن.
يعيش ليريدو ميدينا في نقطة يقال لها القطب الشمالي، وليريدو مثله مثل مانولو كان من أوائل الذين سلموا سندات تمليك الأراضي. ولكن السند الخاص بأرضه لم يعد بحوزته، إذ أنه تبرع به لمتحف في هافانا.
ويقول ليريدو الذي يبلغ الآن من العمر 92 عاما إنه يعتمد الآن على زوجته آيدا وابنه في العمل اليدوي الضروري في مزرعته.
ويقول، "أكثر الأعمال صعوبة هو قطع الأدغال قبل البذر، فليست هناك مكننة بالمرة ويجب انجاز العمل باليد باستخدام المناجر والفؤوس والقوة المجردة."
يذكر أن كل المحصول تشتريه الدولة، إذ يمنع بيع البن لأي طرف آخر.
ولكن، ولغاية اليوم، يرى معظم المزارعين مثل ليريدو في الاصلاح الزراعي بوصفه القانون الأساس الذي منحهم حريتهم، رغم قول المنتقدين بأنه ربط الفلاحين بالدولة مدى الحياة.
لقد خففت القيود الاقتصادية الى حد ما في ظل حكم راؤول كاسترو، مما أتاح لمزارعي البن في القطب الشمالي أن يتحدوا لتأسيس تعاونية زراعية منحتهم قوة تفاوضية مع الحكومة، حسبما قال ازيكيال ابن ليريدو الأكبر.
إلا أن القطاع الزراعي في كوبا، سواء كان ذلك في مزارع البن الجبلية أو حقول قصب السكر والتبغ، يعاني - حسبما يتفق معظم العاملين فيه - من محدودية استخدام التقنيات الزراعية الحديثة. فكثير من المعدات المستخدمة في كويا يعود تاريخها الى القرن التاسع عشر، المحاريث التي تجرها الثيران والعربات التي تجرها الخيل، والمناجل.
يقول ليريدو، "يمكن استخدام الجرار في مناطق السهول، ولكن ليس هنا على سفوح الجبال. إن الحياة صعبة للمزارعين، ولكن العمل لابد أن ينجز."
ويعاني كثير من المزارعين الكوبيين من معدل نمو بطئ في أحسن الأحوال منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، بينما تضطر البلاد إلى استيراد نحو ثلاثة أرباع احتياجاتها من الغذاء.
ولكن لا وجود للجوع في كوبا، ومن غير المرجح جدا أن يلغي الرئيس الجديد واحدا من مبادئ الثورة الأساسية فيما يخص الانتاج الزراعي.
وبينما يعد انتاج البن مهما للاقتصاد الكوبي، يحتل قصب السكر تقليديا مركز الصدارة في قائمة الصادرات الزراعية ويعد عماد الاقتصاد.
بلايا جيرون
عندما تصل الى بلدة بلايا جيرون، تستوقفك عند مدخلها لافتة كبيرة كتب عليها: "جيرون: أول هزيمة للامبرياليين اليانكي (الأمريكيين) في أمريكا اللاتينية."
ما تقوله اللافتة صحيح إلى حد بعيد حتى لو تخلينا عن المبالغات الثورية، فلم يسبق لواشنطن أن خسرت معركة في أمريكا اللاتينية إلى أن حاولت غزو كوبا في خليج الخنازير (أو بلايا جيرون) في عام 1961.
وكانت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية قضت أشهرا في تدريب المنفيين الكوبيين في جنوبي ولاية فلوريدا وقواعد سرية في غواتيمالا لاعدادهم لغزو بلادهم. وفي الـ 15 من شهر نيسان / أبريل 1961، هاجمت قاذفات قنابل أمريكية من طراز B-26 تحمل علامات كاذبة مطارات تقع خارج هافانا وفي سانتياغو.
وبدأ الانزال البحري عقب القصف. فقد نزل إلى جيرون وشاطئين مجاوروين نحو 1400 من المسلحين. ولكن العملية كانت عبارة عن فوضى من بدايتها، إذ اختلطت الأوامر وتاه المسلحون في المستنقعات الواقعة على طول الساحل.
تولى فيدل قيادة القوات المسلحة الكوبية بنفسه، وفي اللحظة التي فضح فيها التورط الأمريكي في الهجوم، رفض الرئيس جون كنيدي توفير دعم جوي للمسلحين.
سحق الإنزال، مما سلم كاسترو نصرا كبيرا ومهما بينما منيت ادارة كنيدي بهزيمة مذلة.
وبعث تشي غيفارا لاحقا برسالة الى كنيدي شكره فيها على الإنزال قائلا، "كانت الثورة ضعيفة، أما الآن فهي أقوى من أي وقت مضى."
يمكن رؤية قصة الإنزال كاملة - من وجهة نظر ثورية بالطبع - في متحف صغير في بلايا جيرون. سمعت بعض الزائرين وهم يتحدثون بلكنة أمريكية. ولكن اذا كان هؤلاء يريدون سماع قصة ما حصل في ذلك الاسبوع الحاسم في عام 1961، ربما عليهم ترك المتحف والتوجه الى منزل دولوريس فيس.
تقيم دولوريس في مسكن متواضع يقع على مقربة من المتحف، مسكن أرضيته من الخرسانة تمنحه شيئا من البرودة في قيظ جيرون الرطب.
تعيش واحدة من بنات دولوريس في مسكن مجاور لمسكن والدتها، بينما يعيش أحد اولاد عمومتها في المسكن المقابل. رحبت بي وكأنني أحد اقاربها، إذ هذه ليست المرة الأولى التي أزورها فيها.
دولوريس البالغة من العمر 84 عاما واحدة من سكان جيرون المتبقين الذين عاصروا انزال 1961، والقصص التي ترويها فريدة وأخاذة. وتلخص قصة حياتها الثورة الكوبية بأسرها.
أجريت لقاء صحفيا مع دولوريس للمرة الأولى قبل وقت قصير من زيارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما الى كوبا في عام 2016، حيث روت لي كيف وقع الانزال وكيف أيقظت زوجها قائلة له "هناك اطلاق نار على الشاطئ!"
كانت دولوريس على استعداد للصمود ومقاومة الانزال، لكن زوجها نجح في اقناعها وأخته بأخذ أطفالهما والاختباء في التلال المجاورة.
ولكن هذه المرة تحدثت دولوريس عن التغييرات التي شهدتها بلايا جيرون.
قالت، "لم يكن هناك أي شيء هنا، ولكن الآن لا أعرف نصف السكان لأن الكثيرين جاءوا الى هنا من كل أرجاء كوبا، من أورينتي وكاماغوي وهافانا ومن كل مكان للإقامة هنا."
السبب في ذلك هو الحركة السياحية النشطة التي تشهدها البلدة، إذ يؤجر هؤلاء القادمون الجدد غرفا في منازلهم للسائحين.
ويعد تأجير الغرف للسائحين أيسر السبل للأسر الكوبية لولوج القطاع الخاص وكسب أكثر بكثير من المرتبات الحكومية.
انتقل دينير سواريز، المعرف بـ"جيمي" الى جيرون من هافانا عندما بدأت حركة السياحة فيها بالنمو. عمل طاهيا في الفندق الذي تديره الحكومة والواقع قرب الشاطئ، ولكنه تحول الى القطاع الخاص كمدير لاحدى الدور التي تؤجر غرفا للسائحين.
يقول جيمي، "النشاط لا بأس به هذه السنة ولكنه أقل من السنتين الماضيتين". ويعزو جيمي ذلك لسببين، اعصار "إيرما" الذي ضرب كوبا مؤخرا وأحدث دمارا كبيرا في ساحل الجزيرة الشمالي (ولو أنه لم يحدث الكثير من الدمار في الساحل الجنوبي) مما أثنى الكثيرين عن زيارة كوبا.
أما السبب الثاني، حسبما يقول، فهو دونالد ترامب، في اشارة للقيود التي فرضتها الادارة الامريكية الحالية على سفر الامريكيين الى كوبا بعد تحسن العلاقات ابان رئاسة أوباما.
قبل عقدين من الزمن كان فيدل كاسترو يعتبر السائحين الأجانب شرا لابد منه، وينظر اليهم على أنهم مصادر مفيدة للعملة الصعبة التي تحتاجها كوبا.
أما اليوم، فتنظر الحكومة الكوبية الى القطاع السياحي على أنه الحل لمستقبل البلاد الاقتصادي، وتأمل في تضاعف عدد السائحين في السنوات المقبلة.
ولكن هذا النهج يسبب تفاوتات اقتصادية ملحوظة، وهي تحديات يجب على الرئيس الجديد أخذها بنظر الاعتبار. فهناك بون آخذ بالتوسع بين اولئك الكوبيين الذين يتقاضون اجورهم "بالبيسو المتحول" - العملة التي يستخدمها معظم السائحين - واولئك الذين يتقاضونها بالعملة المحلية العادية (البيسو الكوبي).
كوبا على مفترق طرق
أجريت في كوبا مؤخرا انتخابات المجلس الوطني (التي شارك فيها 605 مرشحا لشغل 605 مقعدا، كلهم من مرشحي الحزب الحاكم). واختار النواب المنتخبون - في 19 نيسان / ابريل - ميغيل دياز كانيل رئيسا للبلاد خلفا لراؤول كاسترو.
حاول عدد من المعارضين والمنشقين ترشيح انفسهم في الانتخابات الأخيرة، منهم اعضاء في جماعة تطلق على نفسها اسم أوترو 18. ويقول هؤلاء إنهم منعوا من تسجيل ترشحهم من خلال اساليب تعسفية مارستها بحقهم الشرطة وأجهزة الأمن.
لم يكن ذلك مفاجئا، رغم اجواء الانفتاح التي صاحبت الاتفاق مع ادارة اوباما على اعادة العلاقات الدبلوماسية بين كوبا والولايات المتحدة.
فبعد 5 أيام فقط من ذلك الحدث التاريخي، قال الرئيس راؤول كاسترو مخاطبا اعضاء المجلس الوطني مشيرا الى العلاقات المتغيرة مع واشنطن ما يلي، "لا يجب أن نتصور بأنه في سبيل تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة، ستتخلى كوبا عن المبادئ التي حاربنا من أجلها لأكثر من قرن والتي ضحى شعبنا في سبيلها بدمه وركب المخاطر من أجل اعلائها."
كانت رسالة راؤول بسيطة جدا: الاستمرارية السياسية، ولا مكان لتعدد الأحزاب أو المعارضة العلنية في كوبا.
قبل عقد من الزمن، كانت سياسة الحكومة الكوبية تجاه معارضيها والمنشقين عنها هو سجنهم لمدد طويلة، ولكن هذه السياسة انتهى العمل بها الى حد بعيد اليوم وحل محلها نظام جديد يحتجز بموجبه منتقدي الحكومة والصحفيين المستقلين اعتباطيا لمدد قصيرة. وتتهم الحكومة من جانبها اولئك المنتقدين بأنهم "مرتزقة" يعملون لحساب المجموعات المناهضة لحكم كاسترو ويقيمون في واشنطن وميامي.
قوبل تحسن العلاقات بين هافانا وواشنطن بشئ من الريبة على جانبي مضيق فلوريدا. فعلى الجانب الأمريكي، استنكره بشدة حاملو رايات معاداة الكاستروية وعلى رأسهم السيناتور ماركو روبيو. أما على الجانب الكوبي، فكان هناك العديد من المؤدلجين الذين عز عليهم رؤية رئيس أمريكي وهو يزور هافانا.
قال الرئيس أوباما في زيارته التاريخية لكوبا، "جئت لأدفن مخلفات الحرب الباردة في الأمريكتين"، وتحدث عن لم شمل الأسر التي مزقتها عقود العداء وسط روح جديدة من الصداقة. قالت لي إحداهن لاحقا "إنها أجهشت بالبكاء".
كتب فيدل كاسترو مقالا في ذلك الحين محذرا من "كلام أوباما المعسول" ومطالبا الثوريين التحلي باليقظة. وقد أيدت بعض العناصر المتشددة في الحكومة ما قاله فيدل في مقاله، وذلك في سعيها للتصدي للمد المتصاعد للمشاعر المؤيدة للولايات المتحدة في كوبا.
ما حدث بعد ذلك أن دونالد ترامب فاز برئاسة الولايات المتحدة.
في غضون ساعات قلائل من الاعلان عن وفاة فيدل، استخدم ترامب وسيلته المفضلة للتواصل، تويتر، للاشارة الى رحيل "ديكتاتور وحشي" سيكون ارثه عبارة عن "فرق اعدام وسرقة ومعاناة لا يمكن تصورها وفقر وحرمان من ابسط حقوق الانسان" حسب تعبيره.
وبذا أعد المشهد لعودة العداء بين البلدين، وهو الموقف الذي ما زال سائدا في الوقت الراهن.
وتعقدت العلاقة أكثر نتيجة حوادث غريبة تعرضت لها السفارة الأمريكية في هافانا، حيث اشتكى أكثر من 20 من الدبلوماسيين الأمريكيين من اعراض متعددة تعذر ايجاد تفسير لها.
وقالت وزارة الخارجية الأمريكية إن موظفيها كانوا ضحايا ما وصفته "بهجمات صحية"، وحملت كوبا مسؤولية التقاعس في حماية دبلوماسييها إن لم تكن مسؤولة مسؤولية مباشرة عن الهجمات المزعومة.
من جانبها، نفت هافانا أي علم بالحوادث، وقالت إن الأمر برمته عبارة عن خليط من قصص ملفقة وهستيريا جماعية الهدف منها تقويض مسار تحسين العلاقات وتبرير اتخاذ مواقف أكثر عدائية من جانب الولايات المتحدة تجاه كوبا.
وهكذا، سحبت الولايات المتحدة معظم دبلوماسييها من هافانا ولم تبق الا عدد قليل، وأضحت العلاقات الأمريكية الكوبية اليوم بعيدة كل البعد عن تلك التي كانت سائدة خلال حكم ادارة أوباما.
هذا هو الموقف السائد عندما يمسك خليفة راؤول بزمام الأمور في كوبا.
ولكن هل يهم هذا الكوبيين العاديين؟
بإمكان المرء ان يحاجج بأنهم لن يهتمون به الا قليلا. فالثوريون الملتزمون يصرون دوما على ان الأمور ستكون على ما يرام، وأن الثورة الكوبية في أياد أمينة وأن الوضع سيستمر كما كان هو عليه في السابق.
ومما لا شك فيه أن أي حكومة مستقبلية في كوبا لن تجرؤ على التلاعب بالدعامات الأساسية للثورة، وخصوصا العناية الصحية المجانية والتعليم المجاني والدعم المقدم لفقراء الأرياف.
ولكن عند سؤالهم عن الكيفية التي ستتمكن بها كوبا من تحمل نفقات هذه السياسات، خصوصا وأن فنزويلا أقرب حلفاءها تجثم على ركبتيها اقتصاديا وأن ما تجنيه كوبا من صادراتها قليل جدا، يبتسم الكوبيون ولا يقولون شيئا إذ أن معظمهم لا يعرفون كيف ستتصدى البلاد للتحديات الاقتصادية المستقبلية.
قال لي أحد مسؤولي الحزب الحاكم في بايامو، "لقد مررنا بما هو أسوأ، انهيار الاتحاد السوفييتي والمرحلة الخاصة"، في اشارة الى الأزمة الاقتصادية التي مرت بكوبا في تسعينيات القرن الماضي.
وختم بالقول، "اذا كنا قادرين على تجاوز تلك الصعوبات، فإننا قادرون على تجاوز أي شيء."
يواجه الملايين من الكوبيين صراعا يوميا تحت ظروف قاسية من أجل توفير حياة كريمة لهم ولأسرهم. ولكن في نفس الوقت لديهم الكثير مما يستطيعون الافتخار به، خصوصا المنجزات الاجتماعية التي حققوها في ظل حكم فيدل وراؤول كاسترو، وهي منجزات تعجز على تحقيقها دول أكبر وأكثر ثراء.
ولكن بتصاعد مطالب الكوبيين بظروف معيشية أفضل، ستتصاعد ايضا التحديات التي تواجهها مؤسسات الدولة وقيادة البلاد الجديدة.
التعليقات