يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال صفحتنا على فيسبوك
إضغط هنا للإشتراك
أهم ما تطالب به الحكومة المصرية الجديدة, ليس أن تحل مشكلات التعليم والصحة والإسكان وغير ذلك, ولكن أن تتصرف علي نحو يعيد ثقة المواطن في أنها جادة في السعي الي ذلك, وأمله في أن يتحقق الاصلاح المنشود يوما في المستقبل المنظور.
(1)
من أسف أنه ليس لدينا قياسات معتبرة للرأي العام, لكني أرجو ألا أكون مبالغا اذا قلت إن الشوق الي التغيير في مصر صار مطلبا ملحا في الآونة الأخيرة, بل غدا شاغلا للعالم العربي كله, كما أنه ليس بمقدوري أن أعرف بالضبط كيف استقبل الناس الوزارة الجديدة, وما هي مشاعرهم ازاءها, وان كان واضحا أن صحف المعارضة اتخذت منها موقفا سلبيا, ربما لأنها معارضة بحكم طبيعتها, وأرجو ألا أكون مخطئا اذا قلت إن الشارع استقبلها بقدر من الحذر والترقب, بمعني أنه أجل الحكم عليها حتي يري الناس ماذا ستفعل, واذا جاز لي أن أعبر عن القدر الذي أعرفه من انطباعات الرأي العام, فإن تغيير الوزارة حرك جانبا من الركود في المشهد السياسي المصري, كما أن التشكيلة الوزارية اراحت الناس من بعض الذين لا يريدونهم, ولكنهم ليسوا قادرين علي الجزم بأن الذين جاءوا هم بالضبط الذين يريدونهم, ربما لأن أغلب القادمين الجدد لم يختبروا في الحياة العامة, رغم ما قد يكون لهم من انجازات في دوائرهم المحدودة أو نشاطاتهم الخاصة, ولأنهم اختيار السلطة وليسوا اختيار المجتمع, فقد كان الحذر والترقب صدي طبيعيا ومفهوما.
اعترف في هذا الصدد, بأنني تأثرت بما كتبته صحف المعارضة نقدا للوزراء الجدد, حتي حاولت التشهير بأحدهم ووصفته بأنه صاحب شركة شوربة فراخ, لكنني حين سألت عنهم من يعرفونهم فوجئت بأنهم يتحدثون عنهم بثناء كبير, ويشهدون لهم بالاستقامة والكفاءة.
اذا صح وصف الانطباع العام بأنه اتسم بالحذر والترقب, فإن حكم الناس علي الوزارة الجديدة سيظل مؤجلا, واذا كانت الحكومة قد أعلنت بعد أول اجتماع لها أنها ستضع عشرة برامج لاصلاح الوضع القائم, فإن ذلك لن يغير شيئا من موقف الحذر والترقب, لان هذه البرامج حتي الآن مجرد عناوين, وقد تتحول خلال الأشهر المقبلة الي خطط عمل, وذلك كله سيظل كلاما أصبح عاجزا عن أن يطرب الناس, ناهيك عن انه لن يشبع أو يقنع إلا اذا اقترن بعمل صادق دءوب.
ولان الكلام لم يعد معيارا جيدا للحكم, فقد تمنيت أن يقتصد فيه الوزراء, وان يقاوموا ضغوط الاعلام واغراءاته, وقدرت كثيرا واحترمت ما قاله وزير السياحة الجديد لاحدي مذيعات التليفزيون( يوم7/20), انه لا يستطيع أن يتكلم عن خططه ومهمته إلا بعد أن يدرس أوضاع الوزارة جيدا ويجتمع بمسئوليها, اذ اعتبرت ان امتناعه عن الكلام أكثر صدقا واقناعا من تعجله بإطلاق أي كلام يعبر به عن الأماني والأحلام.
(2)
لا آخذ علي مجمل الجد قول من قال إن اسم رئيس الوزراء( الدكتور نظيف) له دلالته في الظرف الراهن, الأمر الذي يستصحب ارتياحا وتفاؤلا, وهو كلام اعتبره من قبيل المخدرات السياسية التي يتعين مكافحتها ومحاسبة المروجين لها, علي صعيد آخر فلا أجد مبررا للادعاء بأن وضع حكومة الدكتور نظيف عشرة برامج لحل مشكلات المجتمع, يعني أن هذه المشكلات ستحل بالفعل,( بالمناسبة, لاحظت أن التصريح الرسمي في هذا الصدد تحدث عن جميع مجالات الخدمات والانتاج, لكنه اسقط الزراعة, فلعل المانع خير) ـ لكنني أدعو الي التفرقة بين حل المشكلة والأمل في حلها, وازعم أن الوزارة اذا استطاعت أن تحيي في الناس الأمل في حل مشكلات المجتمع الأساسية, فذلك سيكون انجازا عظيما لا ريب, وذلك الزعم من جانبي ينبني علي شعور بالاحباط ألمسه حيثما اتجهت, أوصل كثيرين الي اليأس والقنوط, يتجلي ذلك بوضوح في اوساط الشباب الذين لم يعودوا يرون مستقبلا في مصر, وانما صاروا يبحثون عن الأمل خارج الحدود, وحين يهاجر الأمل من بلد فلا مجال للمراهنة علي الحاضرين فيه, ولا تسأل عن المستقبل.
بل اذهب الي ما هو أبعد, زاعما أن اليأس تجاوز أجيال الشباب الي مختلف شرائح الطبقة الوسطي, التي تضم عموم موظفي الدولة والمهنيين فيها, علي الأقل فذلك ما تنطق به الخطابات التي أتلقاها من أناس ينتمون الي تلك الشرائح, التي تشكل العمود الفقري للمجتمع, ذلك أن تلك الخطابات ـ بلا استثناء ـ تنقل صورا من المعاناة تفوق طاقة البشر, ومازلت احتفظ بكم غير عادي من الرسائل المعبرة عن هذه الحالة, تلقيتها حين كتبت ذات مرة مقالا تحت عنوان مصر الصابرة, بمناسبة التحقيق الذي أجري مع أحد مديري العموم في وزارة الشئون الاجتماعية, بعدما تبين أنه يقوم ببيع الفول المدمس في الصباح لسكان أحد الأحياء, وقد اضطر الي ذلك بعدما أمضي أكثر من20 سنة في خدمة الحكومة, لكي يواجه نفقات الحياة التي لم يستطع تحملها.
ثم لا تنس أن حالات الانتحار التي تعددت, وكان سببها العجز عن تلبية متطلبات المعيشة, أو الفشل في العثور علي عمل بعد مضي سنوات علي التخرج, هي في جوهرها تعبير صارخ عن اليأس وفقدان الأمل في الحاضر والمستقبل, وبرغم أن هذه الحالات لم تتحول الي ظاهرة عامة بعد, فإن مجرد حدوثها علي ذلك النحو غير المسبوق يبعث برسالة الي المجتمع ذات دلالة لايمكن التهوين من شأنها أو تجاهلها.
(3)
الثقة والأمل اللذان أدعو الي استحضارهما علي وجه السرعة, يرتبطان ارتباطا وثيقا بأمرين, أولهما التشخيص الصحيح للواقع, والثاني اقناع المجتمع بجدية التصدي لمشكلات ذلك الواقع.
فيما يتعلق بالتشخيص, لست أعرف إن كان مجيء التعديل الوزاري بعد أسابيع من فضيحة صفر المونديال هو مجرد مصادفة أم لا, كما أنني لا أعرف علي وجه الدقة كيف قريء خبر الفضيحة في دوائر القرار, وهل حوصر أثره في محيط الرياضة وحدها, أم أنه تجاوز تلك الحدود الي الفضاء العام, وسواء كان التتابع مجرد مصادفة, وأيا كانت الكيفية التي قريء بها الخبر, فإنني أرجو أن يعد الصفر علامة فارقة, وأن يتم التعامل معه باعتباره نقطة انطلاق ودعوة ملحة الي إعادة التفكير جذريا في العديد من الأوضاع العامة, خصوصا أن ثمة اتفاقا علي تردي تلك الأوضاع في مجالات عدة, الأمر الذي أدي الي تراجع دور مصر وانخفاض رصيدها المشهود اقليميا ودوليا, وهو ما عبرت عنه كتابات عدة واكبت أجواء التغيير الوزاري, كان من ابرزها ما كتبه في هذا الصدد الأستاذ إبراهيم نافع في الأهرام. لا أريد أن نختلف عما اذا كان التقويم في المجالات الأخري التي تتجاوز الرياضة, هو عند الصفر أم فوق ذلك بقليل أو كثير, لكنني أزعم أن ثمة اتفاقا علي أن الأداء العام هو دون المتوسط, أي اننا نتحرك في حدود تقدير ضعيف, حتي وإن اختلفنا حول درجة ذلك الضعف.
يوم الجمعة الماضي(7/22) نشرت صحيفة الوفد خلاصة دراسة نشرها العدد الأخير من مجلة التجارة العربية ـ الألمانية, ركزت علي المقارنة بين رجال الأعمال في5 دول هي: مصر والمغرب والكويت وقطر وقبرص, وكان من بين نتائج تلك المقارنة, ان حصلت مصر علي المركز الأخير في مدي احترام المواعيد والالتزام الزمني, إذ جاءت قطر في موقع أفضل من مصر, تسبقها قبرص, تلتها المغرب ثم الكويت, واحتلت مصر مؤخرة القائمة, وفيما يخص عدم اتخاذ القرار وتصعيده للمستوي الأعلي, جاءت مصر في موقع متأخر, حيث سبقتها قطر وقبرص والكويت, وفيما يتعلق بالتفكير التحليلي وتحاشي حدوث المشكلات, احتلت مصر أيضا المركز الأخير, وسبقتها قطر وقبرص والكويت والمغرب, أما فيما يخص المناقشات والمحادثات بين رجال الأعمال, فقد احتلت مصر كذلك المركز الأخير, وسبقتها كل من قبرص وقطر والكويت والمغرب.
لست أعرف صدي دراسة من هذا القبيل في أوساط غرف التجارة ودوائر رجال الأعمال, لكنني أجد فيها رسالة يجب أن تقرأ جيدا, ورنينا يجب أن يسمع ويؤخذ علي محمل الجد.
(4)
هذا الرنين يسمع بقوة في كتاب حول مكانة مصر والدول العربية في المؤشرات العالمية, ألفه الدكتور رضا عبدالسلام عضو هيئة التدريس بكلية الحقوق في جامعة المنصورة, وقد اعتمد فيه علي نتائج الدراسات التي أجرتها حول الموضوع بعض المؤسسات العالمية, وفي المقدمة منها المنتدي الاقتصادي العالمي, ومنظمة الشفافية الدولية, وقد نشر المؤلف مقاله في صحيفة الوفد( في6/19) الماضي ضمنها بعض الخلاصات التي بينتها الدراسات المذكورة, وكان المقال تحت عنوان دال هو: تعالوا نفهم حكاية صفر المونديال!
في كتابه تحدث عن وضع مصر في8 مؤشرات عالمية, وقارن في ذلك بين عامي2002 و2003, وكانت النتائج كالتالي:
* فيما يخص مؤشر الفساد والشفافية, كان ترتيب مصر في عام2002 عند رقم63, وهذا الترتيب تراجع في عام2003, حتي وصل الي70.
* في مؤشر التنافسية العالمية, كان الترتيب51 ثم أصبح58.
* في مؤشر الاستثمار الأجنبي كان الترتيب91 وتراجع الي110.
* في مؤشر الاندماج في العولمة, كان الترتيب45 واصبح46.
* في مؤشر الاستعداد التقني والمعرفي تراجع ترتيب مصر من65 الي70.
* في مؤشر ثروة الأمم الناهضة, تراجع الترتيب من36 الي45.
* في مؤشر الحرية الاقتصادية لم يحدث تراجع, وانما تقدم وضع مصر في الترتيب, حيث كانت في المرتبة121 في عام2002, ثم اصبحت في المرتبة104 في عام2003.
* في مؤشر التنمية البشرية عاد التراجع الي سيرته, من115 عام2002 الي120 في عام2003.
الأكثر إثارة مما سبق, أن التراجع المصري في هذه المجالات لم يكن علي المستوي العالمي فحسب, وانما كان علي المستوي الاقليمي العربي أيضا, فحين أجري مقارنة بين أداء مصر في المؤشرات السابقة وبين أداء11 دولة عربية هي: البحرين ـ قطر ـ السعودية ـ الامارات ـ تونس ـ الأردن ـ المغرب ـ الجزائر ـ الكويت ـ لبنان ـ سلطنة عمان, ورغم أن بعض الدول لم تمثل في عدد من مؤشرات الدراسة, إلا أن مصر مثلت فيها جميعا, وسجلت التقارير تراجعها ـ بل كانت الأسوأ أداء ـ دون غيرها في المجالات الثمانية, باستثناء ميدان الحرية الاقتصادية, الذي قطعت مصر فيه شوطا أبعد.
* خلص الباحث من المقارنة الي ما يلي:
* إن من بين الدول الأربع الأقدم تمثيلا في مؤشرات الدراسة مصر والأردن وتونس والمغرب كانت الأردن هي الأفضل أداء بالنظر للمؤشرات مجتمعة, وهو ما يعكس اصلاحا حقيقيا جري في الاردن.
* مثلت الأردن في سبعة مؤشرات من الثمانية, وارتفع أداؤها في خمسة مؤشرات هي: التنافسية ـ جذب الاستثمار الأجنبي ـ التنمية البشرية ـ الاستعداد المعرفي ـ ثروة الأمم ـ وقد حقق الأردن ذلك الانجاز برغم محدودية ثروته البشرية, وبرغم أنه دولة ليست نفطية أو سياحية أو زراعية, لوحظ أيضا أن الأردن كانت الدولة العربية الوحيدة التي حققت أعلي معدلات في جذب الاستثمار الأجنبي.
* كان أداء الدول العربية متباينا وغير متجانس, فهناك دول تحسن أداؤها بشكل ملحوظ وهي علي التوالي: الأردن وتونس وقطر وعمان والامارات والمغرب, كما أن هناك دولا تراجع اداؤها, وهي علي التوالي: مصر والسعودية والجزائر وسوريا.
ربما اختلف البعض في تقويم تلك النتائج, وسوف نجد من يطعن في المعايير التي تم الاستناد إليها في اجراء ذلك التقويم, لكن أرجو ألا يصرفنا ذلك أو يعمينا عن ادراك حقيقة, أن الدخان الذي يطلقه ليس آتيا من فراغ, ولكن له أصلا, في نار مرئية في الأفق أو خامدة تحت الرماد.
(5)
لا شأن لي بالعلاج, ولست في موقف يسمح لي بالخوض في موضوعه, ولكنني ألح علي جديته, والجدية هنا لا تتأتي بالتصريحات والخطب, ولا أمل فيها إن انصبت علي الأصل دون الصورة, ولا سبيل الي انجاز شيء حقيقي اذا لم يكن المجتمع طرفا أصيلا في عملية العلاج, حيث الحكومة وحدها بكل سلطاتها وهيلمانها, لن تستطيع النهوض بالمجتمع بمعزل عن مشاركة الناس, ولهذا فينبغي أن يكون أحد شواغل الحكومة هو كيفية استدعاء المجتمع واخراجه من حالة اللامبالاة أو الاضراب عن العمل أو الاستقالة الجماعية, وهذا الاستدعاء لن يحقق المراد منه الا اذا ادرك الناس أن هناك جدية في الأداء واقتنعوا بأنهم مواطنون مشاركون وليسوا رعايا يساقون.
الشفافية من علامات الجدية, وهي مطلوبة في التشخيص بقدر ضرورتها للعلاج, وليت الحكومة تحدد لنا أولوياتها, وتصارح الناس بما تستطيع أن تنجزه وما لا تستطيع, بدلا من أن تزف إلينا أنها وضعت برامج لاصلاح كل شيء, ومن ثم تحمل نفسها بما لا تستطيع الوفاء به, الأمر الذي يهز الثقة ويضعف من رصيد الأمل, وأتمني في هذا الصدد ألا تلقي تبعة المأزق الذي نحن فيه علي الناس, بدعوي أنهم ينجبون أكثر وأن معدلات التنمية عاجزة عن معدلات النمو السكاني, ولنا في الهند والصين عبرة, واحتفال الهند ببلوغ تعداد سكانها المليار نسمة رسالة قوية تدين المنطق العاجز الذي يري في الواقع السكاني عقبة تعطل النمو وليس طاقة وثروة ينبغي الافادة منها واستثمارها.
إن قائمة الأمنيات طويلة, واستعداد الناس للتفاؤل قائم, برغم ما أصابهم من احباط وما تسرب الي نفوسهم من يأس, لكن ذلك الحديث في هذا أو ذاك معلق علي لحظة استعادة الثقة واحياء الأمل في الحاضر والمستقبل.
*الأهرام المصرية
التعليقات