لا يقرأ إلا مرّة واحدة و"المتعة" التي يجنيها القارئ من رواياته لا تدوم طويلاً بل هي سرعان ما تزول لدى الانتهاء من الرواية نفسها. وعلى رغم الشهرة الكبيرة التي حصدها كويليو وما جلبت له من ثروة فهو يظل "نجماً" ولكن خارج الحركة الروائية العالمية وبعيداً من "الخالدين" الذين صنعوا مجد الرواية في العالم. فرواياته يصعب ادراجها في سياق الفن الروائي في ما يفترض من معايير وشروط. ومعظم النقاد في العالم لا يصنّفون كويليو كروائي مجدّد ومحدث ولا يعدّون كتبه أعمالاً روائية حقيقية. وغالباً ما يُنعت أدبه بالشعبي ورواياته بـ"البست سلرز" والحكايات المسلّية. إنها فعلاً حكايات تهدف الى تسلية القارئ وإثارة خياله وبعض الأحاسيس. حكايات فيها من الخرافة والتخييل ما فيها من الوعظ والنصح والارشاد.
وقد تكون رواية "الخيميائي" أجمل أعمال كويليو, فهو لم يكن عرف عندما كتبها "نعمة" الرواج والمجد, فحملت طابع الحكاية الخرافية والبعد الماورائي. واعتمد كويليو في كتابتها نفساً شعرياً غنائياً ولغة سردية عذبة. ولم يخل مضمونها من الطابع السري والأحجية واللغز ما يذكّر ببعض الاعمال الروائية الفنطاسية (الفانتاستيك). الا ان رواياته الأخرى نحت المنحى نفسه لكنها لم تنجح كلّها في نسج اللعبة الحكائية وترسيخ الجو الغرائبي. وبدت بضع روايات على مقدار من التعجّل والاستسهال مستغلة التاريخ استغلالاً سطحياً. وروايته الأخيرة "إحدى عشرة دقيقة" التي حاولت ان تبتعد عن المنبت الخيالي والحكائي كانت من أضعف أعماله وبدت مصطنعة جداً في مضمونها السرديّ وفي شخصياتها وبنائها. ولكنها راجت حتماً كمثل سائر أعمال كويليو.
لعلّ أحدث إصدارات باولو كويليو كتاب يحمل عنواناً عربياً هو "مكتوب". وقد صدرت ترجمته الفرنسية بسرعة سابقة الترجمات الاخرى (دار ان كاريير, باريس 2004). لكنّ الكتاب ليس رواية ولا حكاية بل هو مجموعة نصوص كان دأب كويليو على كتابتها تباعاً في جريدة برازيلية (لا فولها دو ساو باولو) بين 1993 و1994. واستبق الكاتب "حكم" القارئ على النصوص قائلاً انها ليست "مجموعة نصائح" مقدار ما هي "تجارب متبادلة". لكنّ مثل هذا الوصف لا ينطبق على النصوص كلها, فثمة نصوص بديعة حقاً وثمة نصوص تعليمية صرف وذات بعد أخلاقي مباشر إضافة الى احتوائها على الوعظ والحكمة المضمرين حيناً والمكشوفين حيناً آخر. وتمثل هذه النصوص ما يشبه "الخريطة" الثقافية والروحية التي تقوم وسعها تجربة هذا الكاتب. فمشاربه تمتد شرقاً وغرباً, في التاريخ والحداثة, في التراث الروحيّ العالميّ وفي الفكر المعاصر. ولا يضير نصوصه ان تلتقي فيها المسيحية والاسلام والدين اليهودي والبوذية والزان والصوفية والفلسفة وان تتحاور جميعها وتتداخل في مناخ من التآخي والانسجام, متخطية المتناقضات التاريخية والعقائدية. وليس من المستهجن لديه ايضاً ان يتحاور "المسافر" مع "المعلم" وأتباعه, ونيتشه مع آباء الكنيسة والمتصوفة, وشوبنهور مع تريزا الافيلية ويوحنا الصليب وطاغور, أو جون كيتس مع ماشادو وميكالانج وأليوت أو الراعي مع الناسك والمتسوّل والطبيب النفسي والمهرّج... مثل هؤلاء الأشخاص يملأون هذه النصوص التي تتمتع بحرّية كبيرة في كسر النوع الأدبي والتحوّل من اللون الحكمي الى اللون السردي فالحكائي والحلمي والوهمي والتعليمي... اما الأمكنة التي تتحرّك وسعها حركة السرد والتأمل والكتابة فهي كثيرة بدورها: نيويورك, بيرينيه, اسبانيا, براغ, سيدني, الصحراء, الجبال, روما القديمة... أما عنوان الكتاب فاختاره من العربية في معناه القدري (مكتوب) مشيراً الى ان الله "رحمن رحيم" وخير معين للانسان. ويفسّر كلمة "مكتوب" بـ"لقد كُتب".
تبرز في نصوص "مكتوب" شخصيتان رئيستان هما: المسافر والمعلّم. المسافر يمثل رمز الانسان الذي ترك كل شيء وهاجر بحثاً عن الحكمة. لكنه هنا ليس مجرّد شخص أو شخصية محددة الملامح. فهو يخترق جدار المكان والزمان ليصبح كائناً مطلقاً يحمل مواصفات "المسافر" الذي قد يصل او لا يصل. اما "المعلّم" فهو مرشد التائهين والخاطئين والضائعين في ليل العالم, يلتقي المريدون من حوله حيناً ويكون وحيداً حيناً آخر. وغالباً ما يورد الكاتب كلامه في مطلع الكثير من النصوص في صيغة: "قال المعلّم".
ثمة حكايات صغيرة وعبر وتأملات وأمثولات وحكم تفيض بها النصوص التي تشبه في بضع نواحٍ نصوص جلال الدين الرومي وسعدي الشيرازي وجبران خليل جبران وبعض المتصوّفة الغربيين الذين اعتمدوا الترميز في الكتابة. فالنصوص لا تخلو في معظمها من البعد الروحي ومن المجاز والمكابدة النفسية في أحيان ومن التأمل والتأويل و"الشطح" الصوفي والفلسفة والسرد. لكنّ "المعلّم" الذي "يقول" حيناً تلو آخر, هو شخص قديم ومعاصر في الحين عينه, "معلّم" يملك حكمة الماضي وعبرة العصر, هو طيف حيناً وشخص من لحم ودم حيناً آخر.
قد يكون الكاتب هو المسافر نفسه و"المعلم" نفسه في ما يشبه لعبة المرايا. لكنه حتماً هو الراوي الذي يسرد ويتكلّم ويقصّ الحكايات: "المسافر جالس في الغابة وعلى ركبتيه كدسة من الأوراق..." يقول. أو: "المسافر يشعل سيكارة ويدخنها بصمت", وفي نص آخر يقول: "وإذ يشاهد المسافر الأوراق على ركبتيه, يتذكر ماضيه". وهنا يبدأ الكاتب في سرد تفاصيل من حياته وهي التفاصيل التي ستؤلف مادة الكتاب: المواقف التي عاشها, منتخبات من كتب لم ينسها, تعاليم معلّمه, حكايات قصها عليه اصدقاؤه... علاوة على تأملاته في عصره وفي أحلام جيله. هكذا ينقل عن طاغور قوله: "ليست المطرقة هي التي جعلت الحجارة في هذا الكمال, بل الماء, برقته, برقصه وغنائه. حيثما لا تفعل القسوة سوى التدمير, توفق الرقة في النحت".
تحفل النصوص بالكثير من الحكم والامثال وهي غالباً ترد على لسان المعلّم وفي بعض الاحيان على ألسنة حكماء وأدباء وفلاسفة وأناس عاديين, يسأل المريد معلمه في احد النصوص: "كل المعلمين يؤكدون ان الكنز الروحي هو اكتشاف فرداني, فلماذا نحن معاً؟" يجيبه المعلّم: "نحن معاً لأن الغابة هي أقوى دوماً من شجرة معزولة". ويقول المعلّم ايضاً: "اذا تبعتم طريق أحلامكم, التزموا هذا الطريق حقاً". أما "المهرّج" وهو شخص نموذجي فيقول للمسافر: "ان تموت, هو ان تبقى ابداً في الوضع نفسه. اذا كنت هادئاً جداً فأنت لست حياً". ويقول الراوي - المؤلف - المسافر مادحاً فترة "الغروب": "ثمة وقت خلال النهار تكون فيه رؤيتنا مبهمة: إنه الغروب. الضوء والعتمة ينضمان بعضهما الى بعض وليس من نور كلّي ولا ظلام كلّي". ثم يشير الى ان الغروب يعد مقدّساً في معظم التقاليد الروحية.
حكم وخواطر وحكايات اذاً تسعى الى تفسير بعض أسرار الحياة والى توجيه القارئ (العادي ربما وليس المثقف) الى طريق الحق والنور والحياة, ضاربة له أمثالاً وساردة قصصاً ومقدمة العبر... لكنّ ما يميّزها عدم وقوقعها في المباشرة والادعاء, فهي تبدو كأنها سليلة تجارب خاضها الكاتب نفسه مثلما خاضها الاشخاص الذين أخذ عنهم, فلاسفة وكتّاباً ورجال دين وقديسين... ومن ضمن الحكم دعوة صريحة الى الاعتراف بالآخر وحقه في الوجود وكذلك الى المحبة والغفران... ومن الحكم الجميلة في الكتاب حكمة تمتدح الكلمة امتداحاً مجازياً وهي تقول: "الكلمة تستطيع ان تدمّر من غير ان تترك أثراً".