نفهم أن تصوّت الولايات المتحدة ضد أي قرار في مجلس الأمن الدولي، أو في الجمعية العامة للأمم المتحدة لا يكون في مصلحة اسرائيل. فالتصويت هنا أساسه سياسي، وما بين اسرائيل والولايات المتحدة من علاقات ومن وشائج سياسية هو نسيج وحده في تاريخ العلاقات بين الدول. ولكننا لا نفهم أن تصوّت الولايات المتحدة وحدها ضد الحكم الذي اصدرته محكمة العدل الدولية في لاهاي والذي جرد جدار الفصل العنصري الذي شيّدته اسرائيل من أي مشروعية.
فالمحكمة الدولية ليست هيئة سياسية، بل انها هيئة حقوقية، وهي لا تصدر احكامها على قواعد سياسية، بل على أسس قانونية. ثم أن اعضاءها قضاة لا سياسيين ولا ديبلوماسيين. وتاليا فإنها تصدر أحكاماً لا قرارات.
وإذ يقف قاض واحد ضد حكم يُجمع عليه اربعة عشر قاضياً آخرون فمعنى ذلك أن هذا القاضي الواحد لم يكن قاضياً يحكم بالقانون ويستضيء بضميره، ولكنه كان سياسياً يتجاوز القانون ويخنق صوت ضميره.
ان الحكم الذي اصدرته محكمة العدل الدولية لا يؤكد الحق الفلسطيني فقط، ولا يؤكد الاغتصاب الاسرائيلي لهذا الحق فقط، وتاليا فإنه لا يؤكد لا مشروعية الجدار فقط، ولكنه اضافة الى ذلك كله يؤكد أن الانحياز الأميركي إلى اسرائيل يقوم على حساب القانون الدولي والشرعية الدولية وانه يتواصل على حساب العدالة الدولية.
فـ "القاضي" الأميركي في موقفه الشاذ في محكمة العدل الدولية دان من حيث لا يريد دولته الكبرى. وقدمها للعالم على نقيض الصورة التي تحرص عليها فبدت وكأنها دولة خارجة على القانون بل ومنتهكة للعدالة في عقر دارها وفي معقلها، فقد أكدت هذه الدولة الكبرى بعد صدور الحكم انها لن تتوانى عن تعطيل العدالة اذا دعي مجلس الأمن الدولي الى تحديد الاجراءات التنفيذية للحكم القضائي.
ثم إن الأسس والمبادئ القانونية التي استندت إليها المحكمة في حكمها بلاشرعية الجدار، هي نفسها الأسس والمبادئ التي يمكن الاستناد اليها ايضاً للحكم بلا شرعية اسرائيل، بدءاً على الأقل من قرار تقسيم فلسطين في عام 1947، مروراً بحق عودة المبعدين الفلسطينيين الى ديارهم، وانتهاء بقراري مجلس الأمن 242 و338 اللذين ينصان على انسحاب اسرائيل من الأراضي العربية المحتلة في عام 1967 بما فيها القدس. فلو وافقت الولايات المتحدة على الحكم الذي صدر بشأن الجدار الاسرائيلي العنصري، لكوّن ذلك سابقة تلزمها الموافقة على لا شرعية الاحتلال، وعلى لاشرعية كل ما ترتب عليه منذ قيام اسرائيل حتى اليوم.
من هنا السؤال: لماذا تحاول الولايات المتحدة ان تلوي ذراع الشرعية الدولية في كل مرة يحاول فيها المجتمع الدولي كبح جماح الانتهاكات الاسرائيلية للقوانين والمواثيق والمعاهدات الدولية؟ ان محاولة الاجابة عن هذا السؤال تقودنا الى تفهم الأسس التي تقوم عليها طبيعة العلاقات الأميركية ـ الاسرائيلية.
فبالنسبة الى الولايات المتحدة ليست إسرائيل مجرد دولة تخضع لما تخضع له الدول الأخرى من معاملات وإجراءات. ولكنها تمثل في وجودها إرادة إلهية. وتاليا فإن ما يعده العالم ـ بموجب قرارات الأمم المتحدة والآن بموجب حكم المحكمة الدولية ـ مصادرة واحتلالاً، ترى فيه الولايات المتحدة حقاً إلهياً مسترجعاً.
ومن مقتضيات ذلك التعامل مع اسرائيل على انها تجسد بوجودها الارادة الإلهية مما يضعها فوق اي قانون من وضع البشر (الجنتيل).
لم يبدأ تنفيذ بالوعد الإلهي بأرض التوراة (؟) مع بلفور في بريطانيا، وهو لا ينتهي مع بوش في الولايات المتحدة؛ لقد قامت اسرائيل على اساس هذا الوعد، ووضعت الادارات الأميركية المتعاقبة منذ عام 1945 كل ثقلها السياسي والمادي والعسكري لتحقيق هذ الوعد والسهر على استمراره وديمومته، ولو كان ذلك على حساب مصالح الولايات المتحدة نفسها، وعلى حساب القيم الأخلاقية التي تقول بها. وما الموقف الشاذ الذي اتخذه "القاضي" الأميركي في لاهاي سوى تكريس جديد لاستمرار التزام هذا الموقف. فاذا كان الله في اعتقاد الأدارة الأميركية هو صاحب الحكم باقامة اسرائيل، فلا قيمة تاليا لأي حكم يصدر عن اي سلطة قضائية، يناقض هذا الحكم الإلهي. بل أن واجب الولايات المتحدة التي يعتبر رئيسها نفسه مكلفاً مهمة إلهية، ان تعارض وان تتصدى للحكم الصادر عن محكمة العدل الدولية التزاماً بالحكم الإلهي؟ أليس اعضاء هذه المحكمة بشراً؟ ومتى كان حكم البشر فوق حكم الله؟!