بادئ ذي بدء، ليس صحيحاً أن حماس منظمة متطرفة، لو كانت منظمة متطرفة لما وافقت على تقديم غطاء سياسي ووطني لخطة الرئيس محمود عباس في التهدئة، التي تقوم على حدين واضحين: التخلي عن العمل المسلح كنهج وحيد في التعامل مع العدو، دون التخلي عن السلاح والتلويح بإمكانية استعماله إذا فشل العمل السلمي، وتوحيد الصف الفلسطيني وراء مطلبي التحرير والدولة الى الحد الذي يجعله أداة الضغط الرئيس على العدو والوضع الدولي والموقف الأميركي، مع ما يتطلبه التوحيد من مرونة وعلاقات ودية وانفتاح داخلي وقبول بالآخر، وصولاً الى القبول ببلوغه السلطة عبر الطرق الشرعية.
والحق، أن حماس توافقت مع الرئيس عباس على هذه الخطة وجعلت تطبيقها ممكناً، لاعتقادها أنها تستطيع ممارسة تأثير حقيقي على العدو والعالم، خاصة وأنه تتيح محافظة شعب فلسطين على بندقيته موحدة، وتمكنها من التوجه ضد الاحتلال في أي وقت يتطلبه القرار الوطني الفلسطيني ومصالح فلسطين العليا.
هذا الغطاء هو مأثرة لا بد من ذكرها لحماس، التي تخلت عن وجهة نظر خاصة بها رأت لفترة طويلة أن الحقبة الراهنة هي حقبة تحرير سبيلها السلاح لا التفاوض، وأن سياساتها يجب أن تقوم على نوع من فرز فلسطيني داخلي يضع السلطة في صف المفاوضين ويضعها هي في صف المقاومين، على أن تحسن استثمار سياسات التوسع والعنف الاسرائيلية، التي ستضعف بالتأكيد خط التفاوض وتعزز خط السلاح، وستجرّد منظمة التحرير عموماً وحركة فتح خصوصاً من شرعيتها باعتبار الأولى ممثلة التفاوض والثانية حامله السياسي، وستقوي شرعية وشعبية حماس، التي ستظهر باعتبارها قوة تدافع بوسائل صحيحة عن قضية يهددها المفاوضون ويفرطون بها.
غيّرت حماس نهج الفرز في الساحة الفلسطينية، القائل بوجود تباين جذري في النظر الى القضية وفي العمل من أجلها، واستبدلته بنهج التفاهم والتوافق والوحدة الوطنية، الذي يبقي خيار العمل المسلح مفتوحاً ومتاحاً في أي وقت، وقد نجح نهج التعاون هذا في منع العدو من إضعاف الصف الوطني الفلسطيني أو استغلال تناقضاته، وحد من التعبئة، التي كانت تشجع الانقسام بذريعة وجود خطين في الساحة أحدهما وطني والآخر تفريطي، وما كان يترتب عليه من شحن وتحريض متبادل في الشارع الوطني والاسلامي.
بيد أن نوعاَ من الارتباك لدى حماس لوحظ في الآونة الأخيرة، حاولت الحركة حجبه عبر احتفالات بالنصر وتعبئة شعبية غير مسبوقة، ظهر خلالها السلاح، الذي لعب دوراً جدياً في معركة غزة، وكأنه يبحث عن دور، مما طرح أسئلة مختلفة حول مستقبل الجسم الرئيس من قوة حماس العسكرية والسياسية، الموجود في غزة، وحول دوره المستقبلي في الضفة الغربية، حيث الظروف مختلفة وموازين القوى مغايرة، ولأن الاحتفالات ليست بديل الأجوبة السياسية الصائبة، فإنها بدت وكأنها تطيل معركة انتهت، دفع الفلسطينيون خلالها ضريبة الدم والتضحية التي كان عليهم دفعها، وصار من حقهم التطلع الى الحقبة التالية لها، التي يريدون معرفة ما إذا كانت حقبة صراع مسلح مع العدو أم حقبة مختلطة تجمع السلاح الى التفاوض أم حقبة تفاوض صرف. وإذا كانت تستند الى أسس شبيهة بالأسس التي نهض عليها توافق حماس والسلطة في غزة، علماً بأن دور حماس في الضفة أضعف من دورها في القطاع، وقدرتها على التأثير فيها أقل من قدرتها هناك، وبأن رجحان ميزان القوى لصالح حركة فتح، حامل منظمة التحرير وخطها التفاوضي، سيضعف بالضرورة دور الخط المسلح ودور حماس الخاص في القضية الفلسطينية عموماً، سيضعف بعد أن دفع خروج العدو من غزة ثمن الاشتباك معه فادحاً، كما بينت تجربة الأيام التالية لخروجه.
لا تحتاج حماس وحدها الى إعادة نظر في حساباتها، إن منظمة التحرير والسلطة الوطنية تحتاجان بدورهما الى أمر كهذا، خاصة وأنهما تواجهان، مثلهما مثل حماس، وضعاً صعباً يرجع الى رغبة العدو في الاستيلاء على معظم الضفة والى إحكام قبضته على القطاع. تجاه وضع كهذا، ثمة بديلان وحسب أمام حماس: إعادة العدو الى غزة، أو استمرار وتعميق سياسات التوافق الوطني العام، وتوطيد نهج الحوار والتفاهم على العمل الوطني، وتسوية الخلافات الداخلية وبلوغ مصالحة تاريخية بين خطي العمل النضالي، الوطني والاسلامي، تقيد شهوة العدو الى الاستيطان، وتعزز قوة فلسطين وقدرتها على الصمود لفترة جد طويلة، وتكون مثالاً يحتذى بالنسبة الى أكثر من بلد عربي مهدد، وخاصة في الجوار الفلسطيني!
- آخر تحديث :
التعليقات