جورج الراسي

يوم الجمعة في 29 تشرين الأول 1965 اختطف المهدي بن بركة من وسط الحي اللاتيني في باريس، واختفى.
مضى أربعون عاماً على تلك الحادثة التي بقيت سراً مكتوماً لطّخ فترة رئاسة الجنرال ديغول في فرنسا، وبقيت عبئاً ثقيلاً على عهد الملك الحسن الثاني في المغرب.
فجأة يعود اسم المهدي إلى دائرة الضوء، فيخصص له عمدة باريس الاشتراكي برتران دو لا نوي ساحة باسمه قرب مكان اختطافه في حي سان جرمان، وينزل إلى الأسواق فيلم وثائقي يحكي سيرته (هو الثالث من نوعه) إضافة إلى عشرات الحلقات التلفزيونية، وأكثر من مئة كتاب صدر حتى الآن تتناول سيرته وتحاول سبر لغز اختفائه.
وفي الخامس من تشرين الأول 2005 عيّن وزير العدل المغربي محمد بو زوبع قاضياً للتحقيق لتنفيذ الانابة القضائية التي وجهها القضاء الفرنسي للمغرب في أيلول من العام 2003 وجدّدها في أيار الماضي، ويُعلن ادريس لشقر رئيس المجموعة البرلمانية للاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية إحياء "مناسبة مرور أربعين سنة على خطف مؤسس حزبنا" تحت شعار (من أجل إحقاق الحقيقة كاملة)".
هذه الحقيقة لها شقان: الشق الإجرامي ـ البوليسي ـ الاستخباراتي، والشق الأهم الذي يستعيد التراث النضالي للمهدي بن بركة.
الشق الأول يتتابع فصولاً على صفحات الجرائد منذ أربعين سنة. وما انتهى إليه هو تأكيد ضلوع أجهزة أربع دول في تلك العملية البشعة (المغرب ـ فرنسا ـ المخابرات المركزية الأميركية ـ والموساد الإسرائيلي).
وأسفر التحقيق حتى الآن عن توجيه التهم إلى ثلاثة عشر شخصاً من بينهم وزير الداخلية المغربي آنذاك الجنرال محمد أوفقير الذي أصدر بحقه القضاء الفرنسي حُكماً غيابياً بالسجن مدى الحياة في 5 حزيران 1967 (تاريخ محفور في الذاكرة). واعتبر ذلك الحكم على وزير أجنبي يتولى مهامه في ذلك الوقت سابقة في القانون الدولي، أدّت إلى تجميد العلاقات الفرنسية ـ المغربية لمدة سنتين، هذه بعض حيثيات الجريمة.
لكن الأهم اليوم هو ان لا يضيع تراث المهدي في ثنايا ذلك المسلسل البوليسي.
"السياسة الوحيدة الحقيقية، هي سياسة الحقيقة".
هذا كان شعار ذلك المناضل الوطني والقومي والأممي منذ كان شاباً يافعاً، أصغر موقعي "بيان الاستقلال" في 11 كانون الثاني 1944. فهو من مواليد مدينة الرباط عام 1920 في عائلة متواضعة الحال. تكفّلت الحركة الوطنية بمصاريف تعليمه. دخل ثانوية مولاي يوسف حين كان في الثالثة عشرة من عمره ثم أُعطي منحة دراسية ليواصل تعليمه العالي في الجزائر حيث تخرّج مُجازاً في الرياضيات وهو في الثانية والعشرين. وما لبث ان أصبح وجهاً من وجوه الحركة الوطنية منذ مطلع الأربعينات، وعمّد مساره الجديد بدخول السجن لمدة عامين. وبدأت تتحلق حوله جموع العمال والمثقفين تشدهم إليه أفكاره الجديدة، وكونه خطيباً مفوهاً، إلى درجة زادت اعتداده بنفسه حتى حدود النرجسية ونزعات الزعيم الأوحد.
في السادسة والعشرين أصبح مُدرّساً للرياضيات في مدرسة مولاي حسن. ولعب دور الوسيط بين الحركة الوطنية والقصر ما حدا بالجنرال الفرنسي جوان المقيم في المغرب إلى ان يقول عنه "انه العدو الأول لنظام الحماية"، ففُرضت عليه الإقامة الجبرية في جنوب البلاد قبل ان يُستدعى عام 1955 للمشاركة في مفاوضات الاستقلال في بلدة "اكس لي بان". وبعد الاستقلال عام 1956 سُمّي رئيساً "للجمعية الوطنية الاستشارية" وتسلّم مهام إعادة تنظيم حزب الاستقلال بزعامة علال الفاسي. وكان يُريد ان يحوّل الحزب إلى ما يُشبه الحزب الأوحد في البلاد من خلال نظرية "وحدة الأداة الثورية" أو "وحدة البندقية" الرائجة في تلك الأيام، إلى حد الاصطدام الدموي مع خلايا المقاومة الوطنية، وتنظيمات جيش التحرير الذي اسسه في العشرينات البطل عبدالكريم الخطابي. فتمّ القضاء على عباس مساعدي قائد جيش تحرير الريف في 27 حزيران 1956، وتمّ اغتيال محمد بن ادريس العراقي أحد قادة المقاومة في أيار 1959، وتصفيات اخرى عديدة كانت من "خصائص" الحركات الوطنية والثورية في ذلك الوقت.
وواصل المهدي نسج خيوطه في كل الأوساط الحزبية والعمالية على وجه الخصوص، ولم يكن مُتحمّساً لما أسفرت عنه مفاوضات "اكس لي بان" لجهة عودة محمد الخامس إلى العرش.
وعند انعقاد المؤتمر الأول لحزب الاستقلال عام 1955 برز تياران: تيار المؤسسين الأوائل حول علال الفاسي، وتيار يساري أبرز رموزه عبدالله ابراهيم، والمحجوب بن صديق، والفقيه البصري، وعبد الرحمن اليوسفي. وكان بن بركة يتأرجح بين التيارين حتى تموز من عام 1958 حين سُحب منه الإشراف على جريدة الحزب، فانضمّ نهائياً إلى تيار عبدالله ابراهيم.
وفي 25 كانون الثاني كان بن بركة أول من يُعلن انشقاق حزب الاستقلال وولادة "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" الذي خرج من معطفه في ما بعد عام 1972 "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية"، بعد سلسلة انشقاقات.
في عام 1960 اتهم مع العديد من قادة الحزب بما عُرف بـ"مؤامرة تموز" فلفّق لهم أوفقير ملفاً وحكم عليه بالموت غيابياً مرة أولى. وبعد وفاة محمد الخامس أراد الحسن الثاني فتح صفحة جديدة فعاد بن بركة إلى المغرب في 17 أيار 1962، لكن أوفقير ما لبث ان دبّر له حادث سيارة مع رفيقه المهدي علوي قرب بلدة بوزنيقة، خرج منه بجروح بليغة أُرسل على اثرها للعلاج في ألمانيا.
وفي 17 أيار 1973 فاز في الانتخابات النيابية فوزاً ساحقاً عن مدينة الرباط، فدبّر له أوفقير تهمة جديدة وحُكم عليه بالموت مرة ثانية فهرب إلى الجزائر حيث أصبح مستشاراً لأحمد بن بلة. وتشكلت في باريس لجنة للدفاع عنه ضمت جان بول سارتر وفرانسوا ميتران.
وفي 16 تشرين الأول 1963 أعلن من راديو القاهرة وقوفه إلى جانب الجزائر في "حرب الرمال" ضد المغرب!.. فحكم عليه بالإعدام مرة ثالثة. وبدأت رحلة المنافي ومناصرة قضايا العالم الثالث وقضية فلسطين، حتى تاريخ منفاه الأخير لم يبق منه رفاة أو ضريح أو مزار، بقي رمزاً وذكرى.