الثلاثاء: 08. 11. 2005

جمال خاشقجي

تستهوي البعض نظرية أن نشر الليبرالية والانفتاح في المجتمعات المسلمة كفيل بعلاج مشكلتنا الكارثية مع الإرهاب، ولهذه النظرية أصحابها في الغرب، يتوسعون بها حتى يدعوا إلى حركة إصلاح إسلامي، مستخدمين عبارة reformation والتي تعني معنى أوسع من الإصلاح الديني الذي عرفناه على أيدي المصلحين كالإمام أبي حامد الغزالي والشيخ محمد بن عبدالوهاب، وإنما قراءة مختلفة للثوابت بالكامل، مثلما فعلت أوروبا في القرن السادس عشر مع الكنيسة الكاثوليكية، وهؤلاء يتوسعون أيضا في تعميم حالة ''الأزمة'' لتشمل كل المسلمين أو غالبيتهم، فمظاهرات المهاجرين المطحونين في فرنسا هذه الأيام هي مشكلة مع ''الإسلام'' ذاته، وليست تعبيراً عن حالة تهميش وبطالة· بل ذهب بعضهم إلى جعل القبول بحق إسرائيل في الوجود مقياسا لمدى التنوير والتسامح لدى المسلم، وليس مجرد الاعتراف السياسي بها·
وللأسف فإن بيننا من تنعكس هذه الأفكار ''الأجنبية'' عنده، بعضها أو كلها، ولكن التجربة تقول إن الغرب يعرف كيف يطور حلولا لمشاكله ولكن عندما يأتي بمشاريعه وإصلاحاته إلى عالمنا تختل بوصلته فيقع ويوقعنا معه في شر تخطيطه أو تخطيط من خطط له، وكفانا بالعراق وما فيه من مآسٍ نموذجا· وبالتالي حبذا لو نقبل من الغرب اهتمامه ولكن نطور وصفات إصلاحنا بأيدينا·
إن نشر الليبرالية أو ما أفضل أن أسميه التسامح جيد في أي مجتمع، طالما أنها انعكاس للقيم السائدة ومقاصدها، وهو ما يبدو أننا شرعنا في فعله نحن السعوديين في حياتنا اليومية من نشر الأفكار والممارسات المعتدلة، أكانت في وسائل الإعلام والترفيه ومناهج التعليم· إن ما يجري اليوم ما هو إلا عودة إلى الحياة الطبيعية والتي خسرناها يوم استسلمنا لقلة عالية الصوت ممن يتبعون منهج ''نحفظ البخاري ونزيد فيه'' وهو مثل مغاربي يقال لمن يخرج على المألوف ويزيد عن الحد المطلوب·
ولكن نشر الليبرالية والتسامح لن يعالج ''الإرهاب'' وأصحابه بل إنه سيستفزهم أكثر، ولن يتفاعلوا مع خطابها ولغتها، إنهم قوم انطلقوا من الدين، ولكنهم شادّوه، وما شاد الدين أحد إلا غلبه، كما جاء في الأثر· والأصح هو نشر التدين الصحيح، وإعادة الاعتبار للعلماء الشرعيين، وتشجيع الدعوات الأصولية المعتدلة، لا أن نحاربها فنترك الساحة للعناصر المتطرفة فيها· إن الإرهابيين هم المرضى في المجتمع، فيجب أن يكونوا هم المقصودون بالعلاج، أما المجتمع فجله سليم لا يحتاج إلى جرعات مبالغ فيها ومكررة من الوعظ والإرشاد وإلا أصبحنا إما ''دراويش'' أو أرضا خصبة للتطرف·
إن مشكلتنا تنحصر تحديدا في ''العنف'' وممارسته، ليس في الغضب أو الاحتجاج، فهذا حق مشروع في المجتمعات الحديثة، تنظمه قوانين، وأعراف تسمح بالتعبير عنه في أطرها، وبالتالي لابد أن يكون البحث منكبا على علاج معضلة لجوء البعض للعنف والذي لا يكون إلا بالخروج على النظام العام، وهو ما سترفضه أي حكومة وستحاربه بضراوة قد تغذي العنف وأصحابه، ما يدخل المجتمع والدولة في دائرة جهنمية مغلقة، ولعل ذلك هو ما دفع فقهاء السلف إلى التوسع بالاهتمام بفقه العلاقة بين الحاكم والمحكوم وتحريم الخروج على جماعة المسلمين والتغليظ على دعاة الفتن·
لو تتبعنا تاريخ الحركة الإسلامية الحديثة مع العنف، لأدركنا المشكلة، يجب أن يعترف الإخوان المسلمون بالمسؤولية، أنهم فتحوا باباً للعنف في مسيرة العمل الإسلامي، ويبدو أن مؤسس الحركة الإمام حسن البنا فعل ذلك عندما قال ''ليسوا بإخوان ولا مسلمين'' يوم بلغه أن تنظيمه السري اغتال رئيس وزراء مصر محمود فهمي النقراشي عام ·1948 لقد كان الاغتيال السياسي ممارسة معروفة في مصر خلال تلك الحقبة، ولكن أن تمارسها حركة إسلامية كان يفترض أن تكون منضبطة بضوابط الإسلام التي تمنع الاغتيال والخروج على ولي الأمر، كان مفاجئا!
بسبب تلك الضوابط، وعلم المتآمرين بحرمة القتل واستباحة الدم احتاجوا إلى الفتوى الشرعية، ويقال إن العالم الجليل صاحب أشهر كتب الفقه المعاصرة الشيخ سيد سابق رحمه الله هو الذي أفتى لهم بذلك، ومضت الأيام دون أن تحصل مراجعة لهذا الانحراف الخطير على مسيرة الدعوة، ذلك أن الإخوان انغمسوا في السياسة وصراعاتها لعقود عدة تالية·
الانحرافة الثانية لم يقع فيها الإخوان وحدهم وإنما الأمة كلها، إنها يوم اغتيل الرئيس المصري الراحل أنور السادات، كانت الأمة كلها غاضبة عليه، لم ينتبه أحد إلى أن مسلمين كان ينبغي ''مرة أخرى'' أن ينضبطوا بضوابط الإسلام، هم الذين قاموا بجريمة الاغتيال وليس شيوعيين مثلا· إن قبولنا الضمني بالمشروعية الأخلاقية على الأقل لاغتيال السادات وسع علينا كوة العنف ''الحركي الإسلامي'' والذي فتق يوم اغتيل النقراشي، ومرة أخرى احتاج من تآمر على قتل السادات إلى الفتوى فوجدها لدى علماء أقل قدراً من الشيخ سيد سابق ولكنهم كانوا علماء ''بما يكفي'' لمن عزم على المضي بمخططه·
يوم قتل السادات خرجت الصحف العربية، بيسارها ويمينها، شامتة، لم نرَ الخطر الداهم والتعدي على أكبر المحرمات، وإنما رأينا غضبنا فقط، وأذكر أن مجلة كويتية كانت لسان حال ''الإخوان المسلمين'' نشرت على غلافها صورة للراحل في زيه العسكري وتحتها الآية ''فخرج على قومه في زينته'' كاستعارة صحفية ذكية ولكنها غير مسؤولة من حركة تقول إنها معنية بتربية جيل صالح·
واستمرت رقعة العنف تتسع بعد السادات، ومعها الصمت، وتتراخى معهما صرامة الفتوى، التي أخذت تنحو أن تكون عامة بعدما كانت تختص بالهدف وحده، فبدأت بأعوان السلطان وجنوده وانتهت باستباحة دم عامة الشعب مثلما تجري به الفتوى اليوم في العراق، كما انخفض مستوى علم المفتين إلى أنصاف المتعلمين والشباب الأحداث·
كل ما سبق علاجه في الدين الصحيح، والعودة إلى صرامة السلف الصالح وعدم تسامحهم مع مثيري الفتن والقلاقل وليس البحث عن عذر لهم، بينما نتشدد مع المجتمع كله ونضيق عليه مساحة المباح الواسعة·