14 آذار 2005 كان يوماً تاريخياً مشهوداً.
كان حشد من اللبنانيين غير مسبوق في تاريخنا الحديث في ساحة الشهداء، بمرور شهر على الجريمة النكراء التي أودت بحياة الرئيس رفيق الحريري.
التقينا في ذلك اليوم على أي لبنان لا نريد، ولم نلتق على أي لبنان نريد.
كان يوم رفض واستنكار، وكان يوم مطالبة. الرفض والاستنكار للجريمة، والمطالبة بإنهاء الوجود العسكري والاستخباراتي السوري في لبنان.
الحشد الهائل، بما كان تعبيراً عن رفض واستنكار، جمعه دفق من الغضب العارم اختلط فيه الحزن العميق بالاستفظاع لهول الجريمة، كما جمعه، بما كان استجابة لنداء المطالبة بالجلاء السوري، خزين متفجر من الرفض لحكم الأجهزة الأمنية. في كلتا الحالتين، عبّر اللبنانيون عمّا لا يرتضون، ولكنهم لم يعبّروا عمّا ينشدون. هكذا كان الحشد أكثر من مأتم وأقل من حركة تحرّر.

قيل عن ذلك اليوم إنه كان يوم الوحدة الوطنية، إذ التقت جموع من شتى المشارب المذهبية والطائفية في بقعة واحدة وسط غابة من الأعلام اللبنانية ترفرف فوق الرؤوس. ولكن الوحدة الوطنية لم تكن في واقع الحال مكتملة، من جهة، بوجود رايات متفرقة مطوية تحت الأعلام اللبنانية المشرعة، ومن جهة ثانية ببقاء فريق وازن من اللبنانيين خارج الجمع، وهو الفريق الذي احتشد، وسط غابة من الأعلام اللبنانية أيضاً، ترفرف فوق الرؤوس، في بقعة مجاورة قبل أيام، على رفض قرار دولي (هو القرار 1559) الذي قضى بتصفية المقاومة اللبنانية مع تجاهل مبررات وجودها. فكان ذاك الحشد الهائل أيضاً تعبيراً عمّا لا يريده فريق من اللبنانيين أكثر ممّا كان تعبيراً عمّا يريدون. فكانت التظاهرة أكثر من حركة احتجاج وأقل من مشروع حل.
وفي كلتا التظاهرتين كان المحرّك هو الشباب، جموع من الفتية، ذكوراً وإناثاً، دون الإحدى والعشرين من العمر في غالبيتهم الساحقة. هؤلاء، في جيلهم، كانوا يعبّرون عمّا يريدون، لا فقط عمّا يرفضون، كانوا يهتفون لغد أفضل. وهذا من حقهم. فالغد ملك الأجيال الطالعة. فماذا جنت تلك الأجيال من تلك الحيوية الصاخبة؟ يبدو كأنها حصدت تهميشاً في الانتخابات النيابية، التي تنجز آخر جولة منها في 19 حزيران، والتي كان يمكن أن تفتح فرصاً للتغيير الذي يصبو إليه الشباب. فلم يشرك الشباب في الاقتراع، إذ لم تخفض سن الاقتراع من 21 إلى 18 سنة كما كان يحكى، ولا تبدّل قانون
الانتخاب الذي أنتج الطبقة السياسية الحاكمة، وكان أن جرت الانتخابات النيابية بحسب قواعد اللعبة المألوفة لا بل الممجوجة، أي وفق المعايير التقليدية في أسوأ تجلياتها: عبر التحالفات المذهبية والطائفية والمصلحية في وجهها الوصولي الفاجر.

التغيير الحقيقي يفترض تغييراً في الطبقة السياسية. فالإصلاح يتطلب مصلحين، وهؤلاء تفتقدهم الطبقة السياسية في لبنان. لو وُجد المصلحون لما تأخر الإصلاح حتى اليوم على الرغم من الحاجة الملحة إليه منذ زمن طويل. كان يمكن أن تبزغ عبر الانتخابات النيابية وجوه جديدة تمنّي ببداية للتغيير المنشود. ولكن هذا الاحتمال كان يستدعي اعتماد قانون جديد للانتخاب يؤمّن صحة التمثيل الشعبي، وهذا ما كان يرتجى من اعتماد الدائرة الانتخابية الأوسع، أقله المحافظة، ونظام التمثيل النسبي، وتضمين القانون نصوصاً تحدد سقفاً للإنفاق الانتخابي للحد من تأثيرات المال السياسي في التحكّم في نتائج الانتخاب، وكذلك تنظيم الإعلام والإعلان الانتخابيين ضماناً للحد الأدنى من تكافؤ الفرص في التنافس بين المرشحين. هذا ناهيك بضرورة خفض سن الاقتراع إلى 18 سنة.
ولكن مثل هذا القانون لم يرَ النور. فلقد ضاع وقت ثمين في محاولات تشكيل حكومة ائتلافية، تجسّد الوحدة الوطنية، في كنف اشتداد الانقسامات السياسية إلى أبعد الحدود. وعندما تشكلت حكومة مصغرة من غير السياسيين لم يعد أمامها متسع من الوقت لاجتراح قانون انتخاب جديد. وكان الأمر يستوجب تأجيلاً لموعد الانتخاب وتالياً تمديد ولاية المجلس النيابي ربما شهرين أو ثلاثة من الزمن. وهذا ما حال دونه تدخل دولي سافر، وبخاصة من جانب الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا فرض التقيّد بالموعد المحدد قانوناً من دون تعديل. فما كان بد من العودة إلى قانون الانتخاب الصادر عام 2000، مع أنه لم يكن يلقى قبولاً من أي طرف من الأطراف اللبنانية. عاشت الديموقراطية التي تبشّر بها الدولة العظمى.
هكذا حيل دون التغيير عبر الانتخابات النيابية. فلم يعد متوقعاً أن تتمخض الانتخابات عن أي تغيير محسوس في الطبقة السياسية وبالتالي في الطبقة الحاكمة التي تنبثق منها. والمقصود بالطبقة السياسية ليس جملة العاملين في الحقل السياسي، وإنما رموز الساحة السياسية. هؤلاء لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليدين. هؤلاء هم الذين يحكمون فعلاً، أو يتحكّمون بالمسار السياسي العام. والبقية من الأتباع الملحقين. وهذا الواقع هو عملياً من آيات هزال الممارسة الديموقراطية في لبنان.
أي تغيير يرتجى على يد المجلس النيابي الجديد؟

بصرف النظر عن واقع استمرار الطبقة السياسية من دون تغيير يذكر، فإن هذا المجلس محكوم بأن يكون اهتمامه محاصراً بأولويات تتقدم بقوة الأمر الواقع على مطلب الإصلاح، وكلها من مخلفات مرحلة النزاع السياسي السابقة: مطالبة البعض بتنحية رئيس الجمهورية، ونزع سلاح المقاومة بموجب القرار الدولي 1559، ونزع سلاح المخيمات الفلسطينية. هذا ناهيك بما قد يترتب على انضواء لبنان تحت مظلة الوصاية الأميركية من محاولات، ولو في مرحلة لاحقة، لاستخدام لبنان منصة لتنفيذ مترتبات الأجندة الأميركية (وهي لا تتميّز في شيء جوهرياً عن المشروع الإسرائيلي) بما في ذلك دفع لبنان إلى عقد صلح منفرد مع إسرائيل وتطبيع العلاقات معها وتوطين اللاجئين الفلسطينيين حيث يقيمون حالياً.
كل مسألة من هذه المسائل ستكون مادة لانقسامات حادة بين اللبنانيين وبالتالي لنزاعات شديدة داخل مجلس النواب. إذا استطاع مجلس النواب أن يجتنب هذه المسائل أو يتجاوزها، وأن يعكف على مهمة الإصلاح، فأين يبدأ وإلامَ ينتهي؟
التغيير يكون على قياس الهدف الأبعد المنشود، على قياس الحلم.

الهدف الذي تصبو الأجيال الطالعة، أجيال 14 آذار، إلى بلوغه، هو بناء دولة، هي الدولة القادرة والعادلة، هي دولة القانون والمؤسسات، هي الدولة التي تمور فيها حياة ديموقراطية جياشة خلاقة. والهدف هو بناء مجتمع، مجتمع العدالة والاستقرار والسلم الأهلي، مجتمع قائم على القيم الحضارية والإنسانية، ولبّها الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان في وطنه، فلا تفرقة فيه ولا تمييز مذهبياً أو طائفياً أو طبقياً أو جنسياً.
في كنف الدولة المثلى والمجتمع الأمثل، كل القضايا، قضايا الناس، قضايا الشباب، قضايا التنمية والمال والاقتصاد والعمل، قضايا الأمن الاجتماعي والأمن الوطني، كلها تسلك طرق الحل المنتظم، فلا تنفجر أزمات مستعصية تهدد المجتمع والإنسان فيه بأوخم العواقب.
سبيل الوصول إلى المبتغى من دولة ومجتمع هو الإصلاح. والإصلاح يكون شاملاً متكاملاً أو لا يكون. والإصلاح على هذا المستوى لا بد أن ينطلق بخطوة سياسية تفتح أبواب التغيير في القرار السياسي. الطبيعي أن تكون تلك الخطوة في اجتراح قانون انتخاب يؤمّن تمثيلاً ديموقراطياً سليماً لإرادة الشعب. والشعب كفيل من ثم بدفع المسيرة إلى خواتيمها المرتجاة.

الإصلاح لن يكون إلا على حساب القابضين على زمام القرار السياسي. فهل يقدم مجلس النواب العتيد على تبني تشريع انتخابي يهدد مصالح الطبقة السياسية؟ لن يكون ذلك إلا إذا أملاه الشعب بشتى وسائل التعبير عن إرادته الحرة.
هكذا، لن نرتقي إلى مستوى 14 آذار الحلم إلا بالإبقاء على روح 14 آذار حية وبترجمتها ضغطاً شعبياً متواصلاً.