الجزيرة السعودية: الإثنين: 13 ـ 06 ـ 2005

العولمة التي يسميها البعض الرأسمالية العالمية الجديدة أو اللبرالية الجديدة، تثير أسئلة مستمرة بسبب الأزمات التي تنتجها والتي تواجهها. بداية تشير العولمة إلى عالم متداخل، يعتمد على بعضه البعض بصورة متزايدة. فقد أصبح الاقتصاد مندمجاً عالمياً، عبر الشركات المتعددة الجنسية، التي زاد نفوذها واحتكارها لحركة الاقتصاد العالمي، مما قلَّص دور الدولة القومية ودور النقابات والمؤسسات المحلية.. وأصبح كثير من القوانين التقليدية التي تصدرها الدول الصناعية لحماية اقتصادها القومي عديم الفائدة أو يأتي بمردود عكسي؛ لأن هذه الدول تستورد قدراً متعاظماً من وارداتها التي تنتجها فروعها الأجنبية في الدول الأخرى، مما يؤثر على الشركات الأمهات في الداخل! وهناك مظاهر أخرى للعولمة مثل ثورة المعلومات والاتصالات وحمى الاستهلاك.

أهم الانتقادات التي توجه للعولمة أنها لم تحسن ظروف المعيشة، وأدت إلى زيادة الفقراء فقراً والأغنياء غنى.. وليس ذلك فحسب، بل قامت العولمة على تدمير ظروف اجتماعية ونفسية لقطاعات عمالية في الدول المتقدمة حيث تقوم الشركات بنقل مصانعها إلى الدول الفقيرة، فيفقد كثير من العمال والفنيين المهرة أعمالهم، ويضطرون لبيع قدراتهم في سوق لا يحترمها.. فتضطر الحكومات على اتباع سياسات مالية قاصرة ومحرجة من أجل تحسين معيشة أولئك العمال.. وهنا يفقد العمال والتنظيمات العمالية قدرتها الهائلة السابقة في التأثير، وتدخل منظمات اجتماعية أخرى في قوى التأثير، مثل المنظمات النسوية والبيئية والسلام ومناهضة العنصرية، فلا يصبح التأثير اقتصاديا فقط بل يدخل المؤثر الثقافي والحقوقي كأحد أهم المؤثرات.
بينما الدول الفقيرة التي انتقلت إليها المصانع رغم أنها تطورت تكنولوجياً، إلا أنها ظلت فقيرة، فنسبة الفقراء لم تقل بل زادت؛ لأن الأجور متدنية والأموال تحتكر لدى فئات قليلة فيها.. وتتراكم الهجرة من الريفيين إلى المدن، حيث يكتظون في سوق العمل في ظروف بائسة واستغلال بشع لظروفهم من عدم قدرتهم على التنظيم وجهلهم بحقوقهم وتدني مهاراتهم.

وهنا يظهر الما بعد حداثيين معلنين انتقادهم للطرح الحداثي (الاشتراكي أو الرأسمالي) ونظرياته الكبرى التي روجت وكأنها حقائق مسلّم بها، خاصة ما اتفقت عليه التيارات الحداثية أن الاقتصاد هو المؤثر الرئيسي في التغيير الاجتماعي. فالما بعد حداثيين يرفضون النموذج الحداثي الخطي في التنمية، خاصة مسألة الارتباط الخطي بين تنمية الصناعات الوطنية وتحسين أحوال المعيشة.. وفكرة أن التحديث (العقلاني) والتقدم التكنولوجي وتمدين المجتمعات من توسع المدن وتشييد البنية الأساسية لبناء الطرق والمباني الضخمة والمصانع الكبيرة وفقاً للتجربة الغربية هو الطريق الوحيد لتحسين ظروف المعيشة والسعادة.. الانتقاد هنا أنه تم تجاهل التنوع الفكري البشري والخبرات الفرعية والثقافات القومية والأقليات والبيئة والمشاعر الإنسانية والنفسية، ونتج عن ذلك كوارث وحروب وتدمير للبيئة.. وبالتالي ليس هناك خط واحد للتطور والتغيير الاجتماعي، وليس الاقتصاد هو المؤثر الرئيسي الوحيد بل يجب إدراج العامل الثقافي للتطوير.

ولكن.. ما علاقة كل ذلك بالإرهاب؟
تكمن إحدى صور العولمة، أو ربما أحد مآزقها، في أن الإجراءات وصناعة القرار أصبحت مندمجة عالمياً بصورة يصعب معها تحديد المسؤولين أو المشاركين في اتخاذ القرارات.. فالقوى المنظمة والمحتكرة للتجارة والإنتاج العالمي لم تعد واضحة ومحددة، أو بصورة أدق لم تعد خاضعة للمحاسبة والمراقبة بطريقة مباشرة، فهذه القوى ليست حكومة محددة أو إدارة مصنع معين يمكن محاسبتها أو مجابهتها.. بل تتمثل هذه القوى في شبكة معقدة ومتداخلة: مجموعة صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، منظمة التجارة العالمية، وول ستريت، الخزانة الأمريكية..

كان المتضررون من الرأسمالية في السابق يتحدون في منظمات ونقابات عمالية أو مهنية أخرى، تواجه القوى الاحتكارية الرأسمالية بالطرق السلمية من إضراب واحتجاجات وغيرها، أو بالطرق الثورية والعنف المباشر ضد أهداف رأسمالية محددة، وكان لهذه العمليات تأثير مباشر في تعديل كثير من قوانين العمل ورفع سقف العدالة الاجتماعية، وسقوط أنظمة سياسية وقيام أخرى.. وكانت اللبرالية الديمقراطية تجد حلولها ومخارجها من داخل نظامها الواقعي المتعامل مع الأحداث بعقلانية..
إنما الآن في ظل العولمة الرأسمالية أصبح صعباً تمييز المسؤولين عن الظلم الذي يقع، ولم يعد سهلاً تحديد أولئك المتسببين في زيادة التمايز بين الأغنياء والفقراء، وأصبح غير متيسر التحديد بدقة أين وكيف يصنع القرار؛ فلم يعد تأثير الحكومات في اتخاذ القرار كما كان في السابق، بل إن كثيراً من الحكومات تتخذ قراراتها وفقاً لتوجيهات حركة الاقتصاد العالمي أو رغبات مجموعة منظمات النقد الدولية.. فمَنْ هي الطبقة الحاكمة لهذا العالم التي يمكن محاسبتها؟ يحددها ماك مايكل بثلاث جهات: البيروقراطيون والسياسيون الذين يضطرون لاتباع التوجهات الاقتصادية العالمية الجديدة، ومالكو الشركات المعتددة الجنسية، ومديرو المنظمات المتعددة الأطراف.. لكن كيف يمكن مواجهتهم أو إخضاعهم للمراقبة وللمحاسبة؟ وقد أصبح الحال كما نقول في العربية (ضائع دمهم بين القبائل)!..

كل ذلك أدى إلى أنَّ طرق المعارضة (الأساليب والوسائل) والمقاومة والاحتجاجات التقليدية أصبحت أقل تأثيراً؛ لأن الخصوم غير محددين.. وذلك يعني أن هذه الطرق لم تعد مغرية أو جذابة لأولئك الذين يرغبون في التغيير الثوري والعمل العنيف لإحداث التغيير.. فيغدو كما أشار ليسلي سكلير أن الحركات الوحيدة الفعّالة هي تلك التي تتمكن من إيقاع الفوضى في منظومة العولمة بطريقة فعّالة، وفي نفس الوقت لا تستطيع مراكز العولمة النافذة أن تتعامل معها ولا أن تحتويها ولا أن تستقطبها.. وهذا هو الحال بالنسبة للإرهابيين، الذين قد يدمرون مركزاً تجارياً أو مجمعاً سكنياً أو مطعماً أو دائرة حكومية مدنية أو عسكرية أو جسراً أو أنابيب نفط أو اختطاف مدنيين أو قتلهم.. فهؤلاء الإرهابيون لا يمكن تحديدهم في بلد معين ولا طبقة ولا مهنة معينة، ويصعب توقع تنفيذ وقت ومكان ونوعية أهدافهم القادمة، وبالتالي لا يمكن استقطابهم بسهولة..

الفكرة باختصار: إن المسؤولين عن العولمة غير محددين مما أنتج جهات غير محددة تقوم بإعاقة المسيرة العولمية.. والخلاصة أن تقسيم العمل العالمي الجديد أدى إلى تحولات اجتماعية هائلة في الدول الغنية والفقيرة، وألحق أضراراً فادحة بفئات سكانية ضخمة، خاصة في الدول الفقيرة.. وعند البحث عن المسؤولين عن تلك الأضرار فإنه يصعب تحديدهم أو محاسبتهم مما يجعل أسلوب المقاومة السابق (السلمي والعنيف) غير فعّال، فتنجذب أقليات نادرة نحو أسلوب الهجوم العنيف (الإرهاب) الذي يلحق الخلل والفوضى بالنظام دون تحديد الخصوم.. المهم هو إثارة الذعر بين الناس والفوضى في النظام وإعاقة التحديث دون طرح أية بدائل.. فهل يمكن القول إن الإرهاب هو أحد إفرازات العولمة؟.