المستقبل: الثلاثاء: 21 ـ 06 ـ 2005

كرر الإسرائيليون خلال السنوات الأربع الماضية موقفاً يرى في شخص الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عقبة في وجه السلام، ويزعم أن إسرائيل لا تجد شريكاً فلسطينياً تستطيع الجلوس معه الى طاولة المفاوضات، لأن الفلسطينيين يزدادون عنفاً بقيادة رئيسهم، الإرهابي المحترف الذي يقود عملياتهم العسكرية، ويعمل لتحقيق خطة ظاهرها الرغبة في السلام وباطنها الإصرار على إبادة الدولة اليهودية في "أرض إسرائيل".

وبعد أن زالت العقبة الفلسطينية بموت عرفات، وتم اختيار قيادة جديدة يتزعمها أبو مازن، الذي كثيراً ما أشادت واشنطن وتل أبيب به ـ ليس إعجاباً بشخصه بل للوقيعة بين الفلسطينيين ـ واعتبرتاه شريكاً ملائماً للسلام، أعلن شارون في خطبة ألقاها أمام مؤتمر هرتسليا ـ تعقده سنوياً مؤسسات وأحزاب إسرائيلية تتدارس خلاله المسائل والتحديات التي تواجه "الدولة" ـ تمسكه بالأهداف والتكتيكات والوسائل، التي لطالما تبناها بها خلال حياة أبي عمار، وتتلخص في استخدام القوة لفرض حل نهائي صهيوني في فلسطين تقاتل الانتفاضة منذ أربعة أعوام للحيلولة دون تطبيقه، يمثل بالنسبة الى الصهاينة خطوة حاسمة نحو إسرائيل الكبرى، التي يجب أن تقوم بين البحر المتوسط ونهر الأردن، لكنها تجد نفسها مجبرة في المرحلة الانتقالية الراهنة على قبول كثافة سكانية متناثرة تخلو من مقوّمات الحياة والاستمرار، يسميها الأميركيون والإسرائيليون الدولة الفلسطينية، ولا مفر من إرساء الحل النهائي المطلوب صهيونياً وأميركياً لها على أسس تخالف قرارات الشرعية الدولية، تفرضها واشنطن وتل أبيب وترى في قبولها محكاً وحيداً لصدق توجه الفلسطينيين السلمي!

ذهب عرفات وجاء أبو مازن، لكن أغنية الشيطان الصهيوني التوسعية بقيت واحدة لم تتغير. وعرضت سوريا مفاوضات بلا شروط مسبقة، فوضعت حكومة إسرائيل شروطاً متعددة تتناقض مع ما دأبت طيلة ثلاثين عاماً على المطالبة به من مفاوضات من دون شروط!
وقد كان من الضروري أن يؤكد شارون تمسك الصهيونية بأهدافها الفلسطينية والعربية، وأن يكشف اتفاقه على الحل الإسرائيلي للقضية الفلسطينية مع الرئيس الأميركي بوش، وإلا لكنا وقعنا ضحية رأي عربي انتشر في الشهر الأخير، وعدنا بحقبة من السلام قال أنها آتية لا ريب فيها، ستقوم بعدها دولة فلسطينية سيدة ومستقلة ضمن حدود عام 1967، وستفكك مستوطنات الصهاينة في الضفة والقطاع، وسيعود اللاجئون الفلسطينيون الى ديارهم، وسينسحب الاحتلال من أراضي سوريا ولبنان، وتنشأ علاقات أميركية ـ عربية طبيعية تتلازم مع قيام الدولة الديموقراطية المستقلة في العراق وخروج جيوش الاحتلال الأميركي منه. وكان من الضروري أن يعلن شارون برنامجه، ويؤكد موافقة واشنطن عليه، كي تتبدّد أكذوبة العقبة الفلسطينية، وأسطورة الجنوح الأميركي ـ الإسرائيلي نحو السلام خلال مدى منظور سيوضع فيه حد لسياسات الاحتلال والتوسع في فلسطين، والسيطرة والهيمنة في غيرها من بلاد العرب، وتنكشف حقيقة الحقبة التي تجتازها منطقتنا اليوم، وتتعارض تعارضاً جذرياً مع وعود وأوهام السلام الوشيك، الذي تسوّقه أوساط معينة بحماسة مخادعة، لاعتبارات لا علاقة لها البتة بالوضع الإقليمي، أو بالواقع الحقيقي القائم فيه، أو باستراتيجيات أعدائه العدوانيين.

... إذا كانت إعلانات شارون اختباراً صهيونياً للقيادة الفلسطينية الجديدة، أو كانت محاولة لإعلامها بحدود الإطار الذي سيسمح لها بالتحرك فيه، فإن رفضها السريع لما جاء فيها كان واضحاً وصريحاً، وانطلق من حقيقة رئيسة هي الوطنية الفلسطينية، التي قد تفتح نوافذ مناورة تكتيكية، لكنها تتمسك في جميع الظروف والأحوال بالثوابت الاستراتيجية، وفي مقدمها الانسحاب الكامل لجيش ومستوطني العدو، وقيام الدولة السيدة والمستقلة على كامل أرض فلسطين 1967، وعودة اللاجئين الى ديارهم، والحدود المفتوحة مع الوطن العربي، واستمرار المقاومة بمختلف أشكالها وألوانها: السلبية والإيجابية، كما تعبّر عن نفسها في الانتفاضة. في هذا السياق، من المهم التوقف عند تصريح أدلى به أخيراً نبيل شعث، يؤكد أن الهدنة لا تعني التخلي عن السلاح، والمفاوضات لا تفرض عدم الاستعداد لممارسة جميع أنواع المقاومة.
ليست المنطقة في طريقها الى التفاوض أو السلام، هذا ما يعيه على كل حال شعب فلسطين، الذي يقاوم منذ نيّف ومئة عام، ويؤكد يومياً أنه سيقاوم مئة عام أخرى. وليس الانفراج مستقبل العلاقات العربية ـ الفلسطينية، الأميركية ـ الإسرائيلي. هذا ما تعيه القيادة الفلسطينية ويعيه الشعب العربي أيضاً. هذا وما سيلمس المحتلون في فلسطين والعراق نتائجه المباشرة، طالما أن مقاومتهم تتعاظم بمرور الوقت، مثلما تتعاظم الحاجة الى إزالة العقبة الصهيونية ـ الأميركية من طريق السلام العربي، الذي هو نمط السلام الوحيد الممكن في منطقتنا.