الحياة: السبت: 16 . 07 . 2005


مع الذكرى الأربعين لإعدام عبدالكريم قاسم، يلاحظ المراقب كم هي راهنةٌ القضايا التي تثيرها السيرة والتجربة السياسيتان للزعيم العراقي الراحل.

فوصول قاسم الى السلطة، في 14 تموز (يوليو) 1958، كان اعلاناً عن التعثّر الكبير في بناء الدولة الوطنية العراقية على أيدي السياسيين المدنيين. وكان أبرز وجوه هذا التعثّر بطء التقدم في تذليل التمثيل المتفاوت للطوائف والجماعات، معطوفاً على الامتناع عن انجاز اصلاحات زراعية تحدّث المناطق الريفية وساكنيها. وهذا، على الأقل، ما فهمه عبد الكريم قاسم ضداً على ما فهمه عبد السلام عارف وباقي الحلفاء في انقلاب تموز ممن حرّكتهم العواطف السنية - القومية العربية وقد شابها قدر معلن من العداء للاصلاح الزراعي ولسائر السياسات المتقدمة والتقدمية. وبانتصار قاسم على شركائه القوميين، بسلوك جمع بين القسوة العسكرية والتحالف مع الحزب الشيوعي العراقي، نشأت فرصة جديدة لتوطيد الدولة الوطنية العراقية وتعزيز دولتها بقيادة عسكرية. وفعلاً، وبغض النظر عن الملمح القمعي للنظام، حالته في ذلك حالة أية تركيبة عسكرية حاكمة، حقق قاسم انجازات بارزة. فإلى توكيده على وطنية جامعة وعابرة للطوائف والمذاهب والإثنيات نفّذ، للمرة الأولى، إصلاحات زراعية اخترقت العمق الريفي، كما أتيح للمرأة العراقية أن تنال، للمرة الأولى، بعض حقوقها. وشهد عهده، كذلك، ظاهرة المدن الصناعية والإسكان العمالي والشعبي مما رعته الحكومة، وقد تأدّى عن الوجهة هذه حركة هجرة وتداخل غير مسبوق بين جماعات العراق.

لكن حظ الوطنية العراقية بقيادة عسكرية «تقدمية» لم يكن أفضل من حظها بقيادة مدنية تقليدية و «رجعية». ذاك ان حزب البعث وحلفاءه ما لبثوا أن انقضوا عليها، وكان عمرها لم يبلغ السنوات الخمس، بدموية باتت مضرب مثل في القسوة. وكانت الذريعة القومية الكارهة لتعددية طائفية مثّلها الحكم القاسمي هي الشفرة التي ذُبح الحكم المذكور بها. ومذّاك راحت الانقلابات العسكرية تتوالى على العراق الى ان انتهى البلد حبيس نظام توتاليتاري، دمجيّ وكاسح في تغليبه أحد الألوان المجتمعية على سائر الألوان.

وفي الخلاصة، تعاقبت على الوطن الحديث الولادة ثلاث نظريات وثلاثة مناهج في رسم الوطنية وتشييد الدولة. لكن بعيداً عن خفّة الهزج الديموقراطي الرائج الآن، تبقى الوطنية القاسمية أشدها قدرة، من ناحية نظرية، على استجابة المهام التي يطرحها العراق وتطوره، وأشدها قابلية، في ما لو أتيح لها أن تعيش، لتحويله وطناً صلباً ينتقل تدريجاً الى الديموقراطية.

وهذا، بالطبع، ما لم يحصل. فكان الأمر ايذاناً مبكراً بمصاعب، وربما استحالات، قيام دول - أوطان في الرقعة العربية. وها هي الخاتمة على هيئة احتلال أميركي لا يكفّ عن طمأنتنا الى انتصار الديموقراطية في العراق، ومقاومين يعبرون الى الغد المضيء بتفجير الأطفال، وانتظار يترقّب لحظة اندلاع حرب أهلية تأتي على ما بقي من العراق.