الخليج: الإثنين: 18. 07 . 2005

1

ناط الدستور اللبناني السلطة الإجرائية بعد الطائف بمجلس الوزراء. وقرارات مجلس الوزراء تتّخذ مبدئياً بالتوافق، وفي غياب التوافق بأكثرية الحضور من أعضاء مجلس الوزراء أو، في القضايا الأساسية، بأكثرية ثلثي أعضاء المجلس. في كل الأحوال لا يملك أحد حق نقض قرارات السلطة الإجرائية. فالمعترض يسجّل اعتراضه في محضر الجلسة.

ولكن القرارات توضع موضع التنفيذ بمرسوم يصدر بتوقيع الوزير المختص ورئيس مجلس الوزراء ورئيس الجمهورية، فإذا امتنع أحد من هؤلاء عن توقيع المرسوم حالَ دون صدوره، ولم يوضع القرار تالياً موضع التنفيذ عملياً ولو إلى حين (المادة 56 من الدستور تمنح رئيس الجمهورية حق مطالبة مجلس الوزراء بإعادة النظر في قرار معيّن). بهذا المعنى يمتلك كل من هؤلاء عملياً ما يشبه حق النقض بحجب توقيعه عن المرسوم. فما هي حدود السلطة التي يمارسها كل من هؤلاء بالامتناع عن التوقيع في حال عدم موافقته على قرار حكومي؟

هذه المسألة كانت مطروحة قبل الطائف، وبقيت قائمة بعد الطائف.

كانت السلطة الإجرائية قبل الطائف منوطة برئيس الجمهورية ويعاونه في ممارستها رئيس الوزراء والوزير المختصّ. كان المرسوم، بما يحمل من تواقيع، يعبّر عن المشاركة في الحكم. كان رئيس الوزراء في واقع الأمر شريكاً حقيقياً لرئيس الجمهورية في ممارسة السلطة بقدر ما يملك من صلاحية التوقيع، أو الامتناع عن التوقيع، على المراسيم. أما حدود هذه الصلاحية التي يملكها رئيس الوزراء فلم تكن دستورية بل كانت سياسية، بمعنى أن حجب التوقيع ينمّ عن خلاف بين الرئاستين، ولا مصلحة لأي منهما بذلك ولا سيّما رئيس الحكومة الذي كان يدرك أن خلافه مع رئيس الجمهورية من شأنه تعطيل شرط أساسي من شروط المساكنة في السلطة، وهو التفاهم، وقد يفضي ذلك إلى تقصير عمر رئيس الوزراء في الحكم.

وكذلك بعد الطائف. فالخلاف بين الرئيسين من شأنه شلّ أعمال الحكومة إلى حد ما وبالتالي تعطيل دور رئيس الوزراء وربما تقصير عمره في الحكم. وفي حال إصرار رئيس الحكومة على البقاء في الحكم مع الشلل، أو مع عدم القدرة على الإنجاز، فإنه، أي رئيس الوزراء، هو الذي يتحمّل مسؤولية العقم أو العجز في الحكم أمام مجلس النواب وكذلك بالطبع أمام الرأي العام. هذا ما قضى به الدستور إذ أحلّ رئيس الجمهورية من تبعات الحكم اللهم إلاّ في حال الخيانة العظمى أو خرق الدستور، وهذا أيضاً ما يفترضه الرأي العام الذي لم يقبل يوماً عُذراً من رئيس الوزراء باعتبار أن لا مسوّغ لاستمراره في الحكم إذا كان عاجزاً عن تحقيق ما تعهّد به في البيان الوزاري أو ما هو مطلوب من الحكومة بطبيعة الحال في إدارة شؤون الدولة على شتى الصعد.

2

هكذا يمكن القول إن الواقع هو فعلياً بعد الطائف كما كان قبله، أي أن حدود سلطة حجب التوقيع من جانب رئيس مجلس الوزراء هي في الجوهر سياسية، واستمرار المساكنة، أي التفاهم مع رئيس الجمهورية محكوم باعتبار سياسي مرتبط بخيار البقاء في الحكم مع العقم والعجز والشلل أو الرحيل.

مسألة حدود سلطة حجب التوقيع طرحت مؤخّراً في معرض تأليف أول حكومة بعد الانتخابات النيابية، فذكّرت أوساط رئيس الجمهورية بالنص الدستوري الذي يقضي بأن يصدر مرسوم تشكيل الحكومة بالاتفاق بين الرئاستين، أي بموافقة رئيس الجمهورية. وفُسّر هذا النص بأن الرئيس يستطيع أن يحجب توقيعه، فلا تتشكّل الحكومة، في حال لم يكن راضياً عن تكوينها أو تركيبتها. لا بل ذهبت بعض الاجتهادات إلى حد القول إن رئيس الجمهورية شريك فعلي في تأليف الحكومة، يستطيع أن يفرض من يشاء ويرفض من يشاء من المطروحين لدخول الحكومة. وقيل أيضاً إن سلاح حجب التوقيع من شأنه تمكين رئيس الجمهورية في أضعف الإيمان الإصرار على الاحتفاظ بما يسمى الثلث المعطّل (بالأحرى واحد أكثر من الثلث) من مجموع أعضاء الحكومة. أمّا رئيس الجمهورية فلا يشارك في التصويت.

رئيس الجمهورية يستطيع بالفعل كل ذلك، وما يحدّ من هذه الصلاحية اعتبار سياسي. فدستورياً لا يجوز أن يبالغ رئيس الجمهورية في استخدام خيار حجب التوقيع إلى حد زجّ نفسه في موقع المشارك في تأليف الحكومة. فالمسؤول عن تأليف الحكومة يبقى رئيس الحكومة المكلّف وليس رئيس الجمهورية، سواء أمام مجلس النواب أم أمام الرأي العام.

من حق رئيس الجمهورية بالطبع أن يتداول ورئيس الوزراء المكلّف في شؤون التأليف ويدلي بنصائحه في ما تقتضيه المصلحة العامة، فمن أولى مهامه السهر على المصلحة الوطنية العليا، ولكن لا يجوز أن يكون شريكاً فعلياً في التأليف. ومن حق رئيس الجمهورية أن يحجب توقيعه عن مرسوم التأليف في حال استيقن أن بين المرشّحين للوزارة من لا يوافق على دخولها سواء بسبب عدم انسجامه مع توجّهاتها العامة المحتملة أو بسبب عدم رضاه عن الحقيبة المسندة إليه أو خلاف ذلك. فمن المفروض أن لا يصدر مرسوم إذا كان تنفيذه متعذّراً.

ولا يجوز أن يصرّ رئيس الجمهورية على لون أو طابع معيّن للحكومة كأن تكون حكومة اتحاد وطني أو حكومة تكنوقراط، أو الإصرار على إدخال قوى سياسية معيّنة بدعوى المحافظة على توازنات معيّنة وإن كان الداعي إلى ذلك في رأيه وجيهاً. ففي أي نظام يُسمى ديمقراطياً هناك قوى سياسية تشارك في الحكم فتُحسب في جانب الموالاة وقوى سياسية أخرى تبقى خارج الحكم فتكون في عداد المعارضة. أما حكومات الاتحاد الوطني، التي تجمع شتى القوى السياسية، فهي من باب الاستثناء وليس القاعدة، وهي تشكّل لمواجهة ظروف طارئة أو غير اعتيادية، كما في ظروف الحرب أو الأزمات الحادة.

3

إلى كل ذلك، في حال فرض رئيس الجمهورية قوى سياسية معيّنة على التشكيلة الحكومية بحجة الحفاظ على توازنات سياسية أو فئوية معيّنة، فإنه لا يستطيع أن يضمن الانسجام الوزاري في كل الأوقات، وفي حال انفراط عقد الحكومة بفعل الخلافات فهو يتحمّل عند ذاك مسؤولية سياسية ينبغي أن يكون بمنأى عنها.

أما الإصرار على الثلث المعطّل فهو طرح غير ديمقراطي في مردوده. فإذا تسلّمت الأكثرية النيابية زمام الحكم فليس من المقبول أن يكون ديدن رئيس الجمهورية، عبر أقلية معيّنة داخل مجلس الوزراء، تعطيل قراراتها في الحكم.

هكذا، ليس ما يحول بين رئيس الجمهورية وحجب توقيعه عن مرسوم تأليف الحكومة سوى اعتبارات سياسية، بعضها ذات مضمون دستوري. وفي حال بالغ في استخدام حقّه في حجب توقيعه فإنه يجازف بتعريض نفسه للانتقاد السياسي والإعلامي، وهو من المفروض أن ينأى بنفسه عن الوقوع في مثل هذا المحظور نظراً لكونه في حلّ، دستورياً، من تبعات الحكم.

هذا النوع من الإشكالات لا ينشأ عادة في كنف الأنظمة الديمقراطية. ففي الأنظمة الرئاسية تتركّز سلطة القرار في يد الرئيس، ولا شريك فعلياً له، مع العلم أنّه يبقى خاضعاً لرقابة السلطة الاشتراعية ومساءلتها. وفي الأنظمة البرلمانية تتركّز السلطة في يد الحكومة التي يبقى استمرارها مرهوناً باستمرار ثقة المجلس النيابي فيها. وثمة في العالم أنظمة هجينة تأخذ بطرف من النظام الرئاسي وبطرف من النظام البرلماني. في هذه الأنظمة يمكن أن تنشأ مثل هذه الإشكالات جرّاء تداخل السلطات. وفي لبنان نظام ديمقراطي شكلاً، وهو طائفي مضموناً. فلا هو رئاسي ولا هو برلماني كلّياً، لا بل إن وصفه بالديمقراطي لا يصحّ إلا تجاوزاً. فالمفارقة، في واقع الحال، أن في لبنان الكثير من الحرّية وإنما القليل من الديمقراطية. في نهاية التحليل، الطائفية تكمن وراء كل التعقيدات السياسية في لبنان. والرئاسات في لبنان ذات هوية طائفية عرفاً، من هنا المضاعفات الطائفية التي قد تترتّب على أي إشكال نابع من تداخل الصلاحيات بين الرئاسات.