الثلاثاء: 30 . 08 . 2005


ما هو سر التأييد الشعبي الذي يناله رجل الدين في المجتمع المسلم، على الرغم من كل مظاهر الحداثة المادية التي تنغمس فيها الشعوب المسلمة من "ستلايت" وتعليم مدني واقتصاد رأسمالي؟ يجيب على هذا التساؤل الباحث الإيراني "داريوش شايغان" في كتابه المهم "النفس المبتورة: هاجس الغرب في
مجتمعاتنا"، وهو يقصد المجتمع الإيراني في عصر الملالي، لكن تفسيراته تصلح لجميع المجتمعات الآسيوية بشكل عام. يقول شايغان: "إن الملالي كما يلقبونهم عادة، ليس دون تهكم لاذع، لهم نفوذ مباشر على الجماهير، فهم يعرفون كل محركاتهم ودوافعهم النفسية، وكل أسطوانة الانفعالات وكل شبكة المشاعر التي تبدأ بالنكتة التافهة جداً، مروراً بالجانب المرضي العاطفي، وصولاً إلى الجانب المأساوي التراجيدي. فهم قادرون على إضحاكهم وإثارتهم حتى الدموع، وتحريضهم وتفريعهم وربطهم، ودفعهم إلى مغامرات مميتة، غير معقولة. وهذه السلطة ناتجة عن كون رجال الدين موجودين على موجة الشعب الطويلة بالذات، فكلهم ينتمون ثقافياً إلى ما قبل الحداثة، وتدور نماذجهم المرجعية وذاكرتهم حول مدار واحد، وتتطور في كوكبة واحدة، إن رجال الدين والشعب متفاهمون، لأنهم يعيشون في المرحلة ذاتها، ولأنهم معاصرون لبعضهم ذهنياً وعقلياً".
في هذا النص يطرح الباحث حقيقة العلاقة القائمة على الهاجس الديني بين رجل الدين والعوام. ويقصد بالهاجس الديني، سيطرة الإحساس بعقدة الذنب الدنيوية تجاه كل شيء دنيوي وأخروي، في مجالات الحرام والحلال، والذي يجوز والذي لا يجوز، والشك النفسي في كل تصرف يُحتمل أنه يخالف الدين. وهذه العقدة الدينية تنتشر بين العوام قليلي الثقافة، وإلى حد ما، بين حملة الشهادات الذين لا يثقون بعقولهم وعلمهم الذي اكتسبوه في الجامعات المدنية. فالسير في الحياة وفقاً للمنظومة الدينية أشبه ما يكون بالمشي في حقل ألغام لا تدري متى يتفجر لغم الانحراف عن الدين. ويحرص رجل الدين كل الحرص على "تسوية" هذه الأرض الخطرة بشكل دائم موفراً كل الإرشادات اللازمة للسلامة. وحيث إن الثقافة العربية ثقافة شفهية سماعية، فكل كتب التراث الأدبي والتاريخي والديني سماعية، فلا وجود للثقافة المكتسبة من خلال القراءة والتفكير واستخدام العقل. وبما أن رجل الدين يعيش أيضاً على هذه الثقافة التي "حفظها" غيباً، وخاصة أنها لا تتجدد مع الزمن، لذلك حق لشايغان القول: "كون رجال الدين موجودين على موجة الشعب الطويلة بالذات". ولأن رجل الدين والعوام يعيشون ذاتياً وعقلياً مرحلة ما قبل الحداثة الفاصلة للدين عن الدنيا على المستوى العام، فهما إذن، يعيشان المرحلة "القديمة" ذاتها.
وبسبب العيش في مرحلة ما قبل الحداثة، فإن رجل الدين هو الوحيد الذي يمتلك جميع الإجابات لجميع أنواع الأسئلة بما فيها الأسئلة الجنسية، وهي الأكثر إمتاعاً بالنسبة للرجل العادي، ولذلك يغلب هذا النوع من الأسئلة في رمضان مثلاً. وفي سبيل تقديم "ثقافة" دينية لا يمانع رجل الدين أن يقوم بجميع الأدوار التي تحتاجها الأسرة المسلمة، فهو الذي يسلّي الأسرة بالحكايات، وهو الذي يأخذ الأولاد إلى المخيمات، والرحلات الترفيهية، وبأرخص الأسعار، بل وقد يفسح لهم مجالاً رياضياً يشغل به وقت فراغهم، وهي مهمة صعبة على الآباء، خصوصاً في الصيف... في حين أن الليبرالي لا يستطيع القيام بواحد على الألف من كل هذه الأنشطة باسم الليبرالية.