بحكم تخصصي القانوني في القانون الدستوري، وبوصفي أستاذا سابقا بكلية الحقوق المغربية طيلة عشرين سنة لمادة القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، وجدتني مشدودا إلي متابعة التطورات التي عرفتها أعمال لجنة إعداد مسودة الدستور بالعراق. وهذا ما يسميه البعض الانحراف المهني، وأسميه علي الأصح الاستعباد المهني. اطّلعت علي مشروع الدستور العراقي ودرَسته بعناية، وتابعت مداولات اللجنة وعشت معها عن بعد تعثرات أعمالها بسبب الخلافات علي قضايا سياسية لم يكن سهلا إيجاد أرضية مشتركة بشأنها للوفاق عليها، مما جعل المجلس الوطني يعطيها مهلة أسبوع للانتهاء إلي مشروع متوافق عليه، ثم أعطي مهلة ثلاثة أيام لم تنته إلي اتفاق بين الأكراد والشيعة من جهة، وجماعة السنة من جهة ثانية، وإلي حين إعداد هذا المقال لم تصل لجنة كتابة مسودة الدستور إلي اتفاق.

قرأت بعناية المشروع وقمت فيه بدراسة نقدية، وانتهيت إلي أنه تكتنفه بعض النواقص بل حتي النقائص. ومرد ذلك إلي أن اللجنة لم تأتلف من قانونيين متخصصين في وضع الدستور، فجاء المشروع تبعا لذلك متضمِّنا مواد قانونية لا توضع عادة في الدستور القانون الأسمي، بل توضع في القوانين الوضعية الفرعية التي يعلو الدستور عليها. كما أغفل المشروع (أو المسودة) تدوين مواد قانونية أساسية توضع عادة في الدستور بدءا من مقدمته وأحكامه العامة إلي بنوده القانونية التي تنظم أغلبيتها اختصاصاتِ المؤسسات الدستورية الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية. ويعاب علي المشروع أيضا أنه لم يتقيد بالترتيب المعتاد في ترتيب مواد الدساتير، وأن ما يُجمع عادة من مقتضيات قانونية في مادة تطول أو تقصر نجده موزعا في مشروع الدستور بين مواد مختلفة، مما عكس فقد صيغة المشروع للتقنية التي تتحكم في صياغة الخبراء في وضع الدساتير. وأنصح أن يُطلب إلي ذوي الاختصاص العراقيين (وحتي الأجانب ولمَ لا؟) أن يتولوا مراجعة الصيغة الراهنة من حيث الشكل قبل عرضها علي الاستفتاء ليكتمل المشروع بذلك. القضايا الخلافية التي حالت بين إنهاء اللجنة عملها في الوقت المحدد كثيرة ومتنوعة، من بينها الاختلاف علي تحديد هُوية العراق وعقيدته، وطبيعة الحكم الذي يجب أن يسوده، ونظام الفيدرالية، وهل تقوم علي أسس جغرافية، أو طائفية، أو عرقية، وما يتفرَّع عن هذه النقطة من تحديد دور الإسلام في مجال الحكم وحياة المجتمع، والانتماء العربي، والإسلامي، ورسمية اللغة العربية، وتوسيع وتقاسم الثروة الوطنية (وفي طليعتها الثروة النفطية) بين الأقاليم والطوائف، وقضايا فرعية أخري لا تنقص أيةُ واحدة منها أهميةً عن الأخري.

وكان من بين القضايا المختلَف فيها أن يعطي الدستور الشعب الكردي حقه في تقرير مصيره، ما يؤول إلي طرح استقلاله علي الاستفتاء لإقامة الدولة الكردية المستقلة، لكن قيل إن ممثلي الأكراد في لجنة صياغة الدستور تنازلوا عن ذلك، دون أن يعلن عما نالوه مقابل هذا التنازل. وبذلك يمكن القول إن القضايا التي لم يتم الاتفاق عليها إنما كان عليها اختلاف في الرؤية والاجتهاد. ورغم عدم الوصول إلي اتفاق فهذا الاختلاف مُثْرٍ ومفيد، فوضع الدستور يعني التأسيس للعراق الجديد كما يعني صنع مستقبله وتحديد مصيره. وهذا شأن هام وخطير، لا يجوز فيه الارتجال والتسرع، ويتطلب الوقت اللازم الذي لا يجوز اختصاره تحت ضغط أي مقتضي أو سبب. في الولايات المتحدة تطلَّب وضعُ الدستور الأمريكي في صيغته النهائية ما يناهز ثلاث سنوات. أما في انجلترا أم الديمقراطيات فقد استغرق الانتقال الديمقراطي فترة سبعة قرون منذ إنشاء المجلس (البرلمان) في العشرين من يناير سنة 1265. وإلي اليوم لا تتوفر إنجلترا علي دستور مكتوب مدوَّن، بل تحكم بالدستور العرفي وبقوانين مضافة تشكل أقلية التشريع البريطاني. ولنعرفَ أكثر حقيقة النقط التي كانت موضوع اختلاف نلخصها في أن الاختلاف كان علي خيار أن يكون الدستور الجديد امتدادا للنظام الدستوري الذي أُعلِن في العراق منذ سنة 1925، وهو الذي نص علي إسلامية العراق وعروبته ووحدة شعبه وترابه الوطني، أم يعكس الدستورُ الجديد تحقيقَ طموح بعض العراقيين إلي إقامة نظام علْماني يتعامل بواقعية مع تفرق الشعب العراقي علي فصائل مختلفة دينا وطائفة ومذهبا وعرقا : أي عراقا متعدد الهُويات موزَّعا بين فصائل وطوائف. وهنا مربط الفرس كما يقال. لقد قام عدد من القانونيين والمفكرين العرب بمعارضة مشروع الدستور الذي أعدته ببغداد لجنة الصياغة، بالإعلان عن مشروع دستور بديل يبدو لي بعد أن قرأته بعناية أنه من صنع خبراء تقنيين. وجاء سالما من الهَنات التي حملها مشروع الدستور الذي أُعلن عنه ببغداد، وفي شكل وثيقة قانونية توفق بين توجهات العراق التاريخية وبين تطلعاته اليوم إلي الحداثة والمعاصرة. وهذا المشروع لن يعرف طريقه إلي الوجود لأنه فقط من عمل قانونيين لا تمثيلية لهم. لكن أود أن أتوقف عند نقطة الفيدرالية لتسليط الأضواء عليها بعد أن قرأت ما كتبه عنها عبر الإعلام العربي مجموعة ممن يجهلونها وتحدثوا عنها من منطلق الجهل بها. ومما جاء في صحيفة عربية عنها قولٌ سخيف مفاده أن كلمة الفيديرالية عربية، وفعلها هو فَدَر الذي يعني في العربية انقطع وانعزل. واستنتج الكاتب من ذلك أن الفيدرالية نظام انعزال وقطيعة. وهذا النوع من الاجتهادات اللغوية يدخل في لغو القول السخيف. وكنت سمعت البعض يحكي نكاتا لغوية مضحكة للترفيه، فيقول : إن شيكسبير هو الشيخ زبير، وعلي ذلك فهو عربي، وأن بيروت كلمة عربية تعني بير حوت (دون أن نسمع عن وجود حوت في البير). ويقول العقيد القدافي (وأتمني أن يكون مازحا) إن الديمقراطية هي ديمومة الكراسي. الفيدرالية لا علاقة لها بالعزلة والانقطاع بل هي نظام جمع لوحدات متفرقة.

وأنقل تعريفها القانوني من كتابي المرجع في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية الذي جعلت منه مرجعيتي لتدريس مادة القانون الدستوري في الجامعة المغربية، وجاء في الجزء الأول منه (الصفحة 147) ما يلي : الدولة الاتحادية (أو الفيديرالية) دولة مركبة من مجموعة ولايات أو جهات تشترك مع بعضها في اتحاد توضع علي رأسه دولة عليا تزاول سلطات الحكم المركزي (أو الفيديرالي)، وتكون للولايات في القاعدة مؤسساتها الحاكمة، ودستورها الخاص، وقضاؤها ومجالسها المنتخبة. وتساهم بواسطة نوابها في المجالس الفيديرالية. والحكم الفيدرالي يمارس سلطاته في القمة، ويختص بممارسة سلطة الدفاع والشأن الديبلوماسي الخارجي وتمارس فيه المحكمة الفيدرالية العليا صلاحياتها، وعنه تصدر العُمْلة الوطنية الواحدة. كما يمارس الحكم الفيديرالي كل ما يتصل بممارسة السيادة الوطنية التي لا تقبل التجزئة . إن الفيدرالية نظام مشاركة لا مركزي تتقاسم فيه الولايات في القاعدة الحكمَ مع الحكم المركزي في الأعلي الذي يقيم مرافقه الإدارية بالعاصمة، ويكون له الدستور الفيديرالي المهيمن علي الدساتير المحلية الجهوية الإقليمية. والنظام الأمريكي يطلق علي الجهات المتحدة اسم الدولة وعددها 50. والترجمة العربية فضّلتْ تسميتها بالولاية، ففي العربية نقول نظام الولايات المتحدة، ولكن في اللغات الأخري يقال عن النظام الأمريكي إنه نظام الدول المتحدة Etats unis بالفرنسية United state بالإنجليزية. لكن الفيدرالية لم تقم في جهة من العالم علي فوارق الدين، والمذهب، والطائفة، والعرق، واللغة، بل علي تقسيم جغرافي إقليمي جهوي تذوب فيه الفوارق، وتلتقي به الفصائل علي وحدة المواطنة والوطن والتراب والعُملة الوطنية. وعلي ذلك ينبغي أن يقوم الاتحاد العراقي المقبل. أما غير ذلك فهو تكريس للتقسيم والتفتيت، ستصبح معه فيدرالية العراق حالة خاصة شاذة متميزة بندرتها، تجعل منها بدعة مستهجَنة.

مستشار العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني