يدخل لبنان، منذ فترة، مرحلة تاريخية غير مسبوقة. وربما كان لازماً إزاحة الكثير من التفاصيل من أجل تبيّن الملامح العامة لهذه المرحلة. يمكن وضع غير عنوان لها إلا أن العنوان الأبرز يبقى تحديد مضمون الوطنية اللبنانية وصياغة موقف لبناني محكوم بالعوامل الداخلية فحسب حيال النزاعات المندلعة في المنطقة وأهمها النزاع المستمر، بأشكال ودرجات، متنوعة مع إسرائيل ومع رعاتها العائدين إلى lt;lt;الاستعمار المباشرgt;gt;.

الملمح الأول لهذه المرحلة هو أنه، لأول مرة في تاريخ الكيان، يبدو مركز الثقل في تقرير المصير الوطني موجوداً لدى المسلمين اللبنانيين بصورة عامة، ولدى المسلمين السنة ونخبهم بصورة خاصة.
الملمح الثاني، وهو مرتبط بالأول، هو أن مركز الثقل هذا، البارز منذ lt;lt;اتفاق الطائفgt;gt;، متحرّر من أي علاقة مباشرة ودونية بأي دولة عربية. وإذا كان lt;lt;التحرّرgt;gt; من هذه العلاقة، مع سوريا، حصل في سياق معيّن ونتيجة أخطاء منهجية، فإنه أدى إلى نوع من العودة المسيحية المتنامية إلى دور lt;lt;الشراكةgt;gt;.
الملمح الثالث، وثمة مفارقة محتملة هنا، هو أن هذه العملية التاريخية، البادئة منذ سنوات، استقرت في ظرف يشهد الوضع العربي العام انهياراً ملحوظاً ويتعزز نفوذ القوى الغربية، وتستعد إسرائيل لوثبة توسعية جديدة تحاول قضم المزيد من الأرض الفلسطينية.
الملمح الرابع هو أن اختيار الموقع الإقليمي الإجمالي للبنان بات فعلاً حراً لأبنائه ومواطنيه ومحكوماً بالتوازنات في ما بينهم طالما أنه من الواضح أن الإجماع المطلوب غير متوافر.

لا بد من عودة سريعة إلى الوراء من أجل اكتشاف كم أن هذا الجديد هو جديد فعلاً.
فمن عام 48 إلى عام 67، وفي ظل الأرجحية الطائفية المعروفة، كان lt;lt;الحيادgt;gt; حيال الصراع العربي الإسرائيلي هو الشعار السائد. إلا أن lt;lt;الحيادgt;gt;، في تلك المرحلة، كان أقصى ما تطمح إليه إسرائيل وحلفاؤها لأن الصراع كان محتدماً فعلاً وكل حياد لدولة عربية فيه قوة تحسم من معسكر المواجهة. لقد تخللت أحداث 58 هذه الفترة. إلا أنها أحداث نجمت جوهرياً عن محاولات الارتباط بالأحلاف الاستعمارية المعادية وليس عن أي محاولة جدية للانضمام إلى دولة الوحدة المصرية السورية. وعندما استقر الوضع الداخلي بعد 58 على توازنات محددة بدا أنه يعكس التوازن العربي الغربي.

إن منطق lt;lt;الحيادgt;gt; هو الذي قاد بعض القوى إلى اعتبار نجاة لبنان من عدوان 67 إنجازاً. لقد عمّمت هذه القوى أطروحة الشماتة من المهزومين وسعت إلى استثمار الانقلاب الحاصل بالانقضاض على التجربة الإصلاحية الجدية الوحيدة التي عرفها لبنان. لقد كان lt;lt;الحلف الثلاثيgt;gt; معادياً للشهابية لأسباب عديدة بينها أنها محاولة تحديثية لم تكن ممكنة لولا عقلانية الناصرية وواقعيتها.
يمكن القول، بلا مبالغة، إنه، على امتداد تلك السنوات، كان التيار الوطني القومي في لبنان جزءاً من حركة واسعة تقودها القاهرة وتضبط إيقاعها.
تصاحب الدخول الفلسطيني المسلح إلى لبنان مع اندفاع النظام فيه نحو الانغلاق. ومع غياب جمال عبد الناصر بات برنامج الحركة الوطنية اللبنانية العروبية حماية الثورة الفلسطينية ودعمها تعويضاً عما فات لبنان من مشاركة في نضالات سابقة وسعياً إلى فتح باب الإصلاحات الداخلية.

استمر هذا العنوان حاضراً بين 75 و82. إنه عنوان لبناني قطعاً ولكنه يسلم بأولوية الدفاع عن المقاومة الفلسطينية. تعقّد الوضع نتيجة الانشقاقات التي رافقت التوتر الفلسطيني السوري إلا أن ما يمكن قوله هو أن النواة الصلبة للحركة الوطنية بقيت أقرب إلى منظمة التحرير حتى بعد استعادة العلاقة مع دمشق غداة زيارة الرئيس أنور السادات إلى القدس.
دخلنا في مرحلة جديدة بعد الخروج الفلسطيني صيف 82. وجرى إحباط lt;lt;اتفاق 17 أيارgt;gt; بعون سوري. وحصلت تباينات حول الموقف من العودة الفلسطينية المسلحة. ولكن ما كان يحصل، عملياً، هو التأسيس للمرجعية السورية التي تكرّست بعد الطائف وإنهاء الحرب والمشاركة في مؤتمر مدريد.

وفي خلال التسعينيات تصاعدت المقاومة اللبنانية لإسرائيل مرعية من النظام الذي لعبت سوريا الدور الأبرز فيه. كان التقاطع واضحاً بين هذه الوطنية اللبنانية وبين المصالح السورية. ويمكن القول، بصورة إجمالية، إن هذا الوضع استمر حتى العام 2005 مع محطة بارزة في العام 2000: lt;lt;تغييرgt;gt; في سوريا يعقب lt;lt;تغييراًgt;gt; في لبنان، الانسحاب الإسرائيلي، تجدد الانتفاضة الفلسطينية، وصول أرييل شارون إلى السلطة، إلخ...
إن 2005 هو عام الأزمة اللبنانية السورية وذلك في سياق تطورات دولية وإقليمية ومحلية متداخلة، لا ضرورة، هنا، لفك تشابكاتها. المهم أن الأزمة حصلت، والعلاقات توترت، والقوات السورية انسحبت، والنفوذ السياسي السوري انحسر حتى بات هامشياً جداً.
وهكذا بات على لبنان أن يواجه الأسئلة المطروحة عليه في ظل ملامح المستجدات المشار إليها آنفاً.
من نافل القول إن ثمة تأثيرات أجنبية ملموسة، وإن الحديث عن lt;lt;دول الوصاية الجديدةgt;gt; لا مبالغة فيه. ومن نافل القول إن دولاً عربية ازداد نفوذها في لبنان بموازاة تقلص النفوذ السوري. ولا بأس، أيضاً، من القول إن إيران حاضرة بشكل أو بآخر. إلا أن هذه الملاحظات لا تلغي القدر من الصحة في الأطروحة القائلة بأن هامش قدرة اللبنانيين على الاختيار الحر لما يريدونه لبلدهم من هوية ومن موقع ومن دور، إن هذا الهامش اتسع. ومن هنا التأكيد أن المسؤولية كبرت بقدر اتساع الهامش.

إن لبنان يقف اليوم وحده في مواجهة إسرائيل والحركة الصهيونية. ووحده تعني، بالضبط، أن لا مرجعية عربية تملي عليه موقفه أو تشاركه في
تحديده. إن على لبنان، وحده، أن يملك رأياً في الصراع المندلع في فلسطين (وهو كذلك برغم lt;lt;خطة غزةgt;gt;)، وفي مصير الاحتلال الأميركي للعراق، وفي طبيعة العلاقات المنشودة بين المنطقة وأهلها والآخرين، وفي ملفات عديدة ذات أهمية استثنائية من نوع الملف النووي الإيراني وغيره...
يمكن رسم خريطة المواقف اللبنانية المعقدة حيال هذه القضايا. إلا أن ما يجب قوله هو إن الضغط متصاعد من أجل استثمار أحداث السنة الفائتة للقول بأن لبنان ما ان يستعيد حريته وسيادته واستقلاله حتى يصبح بالإمكان جذبه إلى lt;lt;وهم الحيادgt;gt; الذي لا ترجمة واقعية له إلا إعادة ربطه بأزمات المنطقة من غير البوابة التي استقر عليها منذ سنوات. إن شعار هذا الضغط هو تحويل lt;lt;نزع الهيمنة السورية على لبنانgt;gt; إلى lt;lt;نزع للعروبة فيهgt;gt;. ويراهن هذا الضغط على تشكيل ائتلاف عريض يحمل هذه المطالب ويجعل المرارات من سياسات سورية في لبنان هادياً وحيداً لتحديد مضمون الوطنية اللبنانية وصلتها بالهوية القومية.

من رسائل هذا الضغط، مثلاً، تقديم قراءة تحريفية للثلاثين سنة الأخيرة يغيب عنها بالكامل البُعد الإسرائيلي والرعاية الأميركية له.
ولكن الوسائل غير lt;lt;الثقافيةgt;gt; لهذا الضغط أكثر حضوراً. إن ما نشهده هو محاولة فتح القرارات الدولية على بعضها. بحيث يصبح 1595 في خدمة 1559، وبحيث يتحول 1614 إلى صيغة ملطفة من 1559. ومكمن الخطورة في هذه المحاولة هو تجنب الاصطدام المباشر بالقوى الرافضة ل1559، وتكبيلها عبر قرارات وسياسات أخرى، من أجل استدراجها إلى بناء موازين القوى الداخلية التي تحسّن شروط وضع 1559 موضع التطبيق.

إن القول بأن لبنان يقف وحده حيال إسرائيل والحركة الصهيونية والقوى التي ترعاها، وأن على توازناته الداخلية أن تلعب الدور الحاسم في إنتاج موقفه من هذه العناوين، إن هذا القول يمكن صياغته بأسلوب آخر. إن لبنان يقف وحده أمام امتحان 1559 الذي يشكّل في هذا الشرط الموضوعي تكثيفاً بالغ الدلالة عما يمكن أن تعنيه الوطنية اللبنانية وصيغة علاقتها بمحيطها.
يقود ذلك إلى استنتاج يقول بأنه على النخب الأكثر وزناً في لبنان، اليوم، أي على النخب السنية، أن تقول رأياً حاسماً لأن الأمانة التي بين أيديها لا تقل عن ترجيح الحسم في عروبة البلد وعن إدراك أن الحياد lt;lt;سرابgt;gt; لم يقد في السابق، ولن يقود، إلا إلى تصديع لبنان.