الأربعاء: 21. 09. 2005
قبل سنوات حدد الشيخ عبدالعزيز بن باز، المفتي العام للسعودية سابقاً، عدد الذين يحق لهم الفتوى في السعودية بخمسة أشخاص كان هو أحدهم. كنت شاهداً على هذه القضية، واليكم التفاصيل. بالصدفة المحضة، صار كاتب هذه السطور رئيساً لتحرير مجلة «الدعوة» السعودية. الصدفة وقعت العام 1989. بعد تجربة «الدعوة» راج اسمي في سوق الصحافة الإسلامية، فصرت بمحض إرادتي رئيساً لتحرير جريدة «المسلمون» الدولية. في اليوم الأول طلبت مقابلة الشيخ عبدالعزيز بن باز. قبل ذهابي إلى الشيخ تحدثت مع بعض الأصدقاء القريبين منه، وفهمت منهم انه كان مسروراً من تجربة مجلة «الدعوة»، وكان يعتقد بضرورة استمرار التجربة. رفع هذا الكلام عني الحرج الذي كنت أحسه لأنني قادم إليه لشرح أهمية الدور الذي قد تلعبه الجريدة التي أمثلها، مع أنني اعرف ان رأيه فيها «مش ولا بد». في مجلس الشيخ وقعت حادثة مهمة تستحق الرواية. جلست إلى يمين الشيخ، كان عن يساره رجل جالس على الأرض يتولى إعطاء ابن باز سماعة الهاتف للرد على طالبي الفتوى. كانت المكالمات تأتي من كل مكان من مصر والسودان وباكستان وسورية والكويت، وكان ابن باز، رحمه الله، مرجعاً إسلامياً للفتوى. إحدى المكالمات كانت من السعودية. المتصلة سيدة وتسأل الشيخ ابن باز عن حكم الإسلام في لعبة «الاتاري»؟
سمع الشيخ السؤال ثم التفت الي، وسألني: يا أخ داود ما هي «الاتاري»؟ بدأت أشرح له الفكرة، فقام رجل في المجلس وبدأ يكذب الكلام الذي قلته، فطلب منه الشيخ التلطف بالصمت، وطلب مني إكمال شرحي، ثم سألني هل فيها موسيقى، فشرحت له كيفية إيقاعات هذه اللعبة، وتكرر مشهد الرجل الذي يرفض إجابتي، واستمر موقف الشيخ، وقبل ان أنهي كلامي كان الشيخ قد أمر الرجل بطريقة لبقة إما ان يخرج من المجلس أو يصمت، ثم قال للمرأة «الاتاري ليست حراماً، ولكن»... وراح يرشدها إلى أهمية تنبيه الأطفال لأوقات الصلاة خلال اللعب، وما الى ذلك. تخيل لو ان الذي كان في مكاني هو ذلك الرجل الذي كان يعترض على شرح فكرة اللعبة؟ كانت «الاتاري» ستصبح من المحرمات!
في مكتب الشيخ، اطرق سيد الزهد والتواضع يسمعني، قلت له الجريدة التي اعمل فيها تتوجه الى معظم الدول الإسلامية، وأنت تعلم يا شيخ أن لكل مجتمع مذهبه وشيوخه، لكن المشكلة ان الفتوى في الجريدة شبه مقصورة على العلماء في السعودية. فرفع رأسه وقال: في المملكة أقصر الفتوى على خمسة أشخاص وعدد أربعة وسكت، الشيخ محمد بن عثيمين، الشيخ محمد بن صالح اللحيدان، والشيخ صالح بن فوزان الفوزان، والشيخ ابن جبرين. وطلب من مدير مكتبه الكتابة إليهم وحثهم على التعاون مع الجريدة. ثم سألته من يرى في الدول العربية، فقال في مصر أرشح لكم الشيخ جاد الحق، وأضاف أما في بقية الدول فأترك لكم اختيار من ترون حسب ظروف البلاد.
كان معظم إن لم يكن جميع الذين استبعدهم الشيخ ابن باز من حق الفتوى في السعودية هم نجوم الصحوة، او نجوم الشريط الإسلامي في التسعينات. لكن هذا الموقف للشيخ ابن باز، على أهميته القصوى في ذلك الوقت، بقي في إطار ضيق ولم يتم تعميمه، حتى على الصحف السعودية، واستمر هؤلاء يمارسون الفتوى في جميع المنابر ووسائل الإعلام المحلية، واستطاعوا على مدى عقدين من الزمن تشكيل مرجعية ثقافية عنيفة ساهمت بفاعلية في صنع جيل كامل من الشباب الذي يعتبر العنف الوسيلة الأولى والوحيدة للتغيير إلى أن وقعت الفأس بالرأس، وانتقل القتال من أحراش أفغانستان والشيشان إلى شوارع الرياض.
هذه الحادثة تطرح أسئلة مهمة عن كيفية الانفلات في مجال الفتوى. وكيف سُمح بهذا «التمرد» رغم اعتراض أبرز العلماء عليه؟ وكيف أمكن غض الطرف عن هؤلاء الدعاة الذين خلطوا السياسة بالدين، وتطاول بعضهم على رموز المؤسسة الدينية؟. ألم تكن هذه المؤسسة على مدى قرنين من الزمن هي التي تخرج الوعاظ والدعاة والمفتين، وتصنع رجالها وقياداتها ونجومها بنفسها، وتمنع كل من يخالف خطها من الوصول الى الناس، فماذا حدث لها؟ ومن المسؤول عن تراجع دورها التقليدي القائم على الفصل بين الشيخ والأمير، والسياسي والديني؟ ان الإجابة على هذه الأسئلة أمر مهم لفهم ما جرى، ومنع تكرار التجربة المؤلمة التي نمر بها الآن.
التعليقات