الأربعاء: 28. 09. 2005
بعد أزمة ايلول (سبتمبر) وطرح سؤال «لماذا يكرهوننا؟» من جانب الاميركيين، شجع بعض الانظمة العربية مثقفين وسياسيين لتنظيم زيارات لصحافيين وسياسيين ومفكرين اميركيين مستقلين لفتح حوار معهم بطرق غير رسمية في محاولة لتهدئة خواطر الاميركيين وكسبهم للتأثير في صانع القرار الاميركي الذي يلوّح بالحرب. لكن هذه الصيغة الخاصة لم تجد نفعاً، لأن تلك الحوارات وقعت فريسة للمجاملة وممارسة «التكاذب» بين الطرفين. فأصبح كل طرف ينكر كل شيء ويتجاهل حقائق يصعب تغييبها في ساحة المشكلة، ويقول لصاحبه وهو يحاوره ما يحب سماعه، والنتيجة ان هذه الحوارات فقدت جدواها. فالعرب يخرجون منها وهو يقولون لبعضهم بعضاً إما أن الاميركان يجاملونا وإما انهم لا يعرفون الحقيقة. والمثقفون الاميركيون يقولون لبعضهم بعضاً يبدو أن العرب لا يدركون حجم المعلومات التي لدينا عنهم، فضلاً عن انهم غير مدركين خطورة الوضع الذي نشأ عن احداث ايلول ويعتقدون ان الأزمة الراهنة ستمرّ مثل غيرها، من دون ثمن.
لم يمض وقت طويل حتى جاء الثمن. غزت اميركا افغانستان، وقتلت الابرياء مثلما فعل بن لادن، واعتقد بعض العرب ان الغضب الاميركي سيهدأ بعدما سالت الدماء في افغانستان، وتم تشريد تنظيم «القاعدة» والقضاء على «طالبان»، فعاد العرب الى الحوار والنصحية، لكن من دون تكاذب هذه المرة، وتبادل الطرفان خطابات وزيارات غير رسمية. وقبل ان يجف حبر هذه الحوارات غزت اميركا العراق لأسباب كاذبة، فأدرك العرب او بعضهم ان ناصح الاميركان في النار، واقتنع عدد غير قليل من المثقفين والصحافيين وقادة الرأي العرب ان واشنطن لا تفهم غير لغة القوة وسفك الدماء، وتدمير الدول، وسماع ما يبرر تصرفتها التوسعية الهوجاء، فانتقل الخطاب الاعلامي العربي في مجمله من الحوار وتفهم الغضب الاميركي الى التحريض ضد سياسة البيت الابيض، فأدركت واشنطن أهمية الحوار، او هكذا تخيلنا، لكن بعد خراب البصرة.
أفاقت السياسية الاميركية على كراهية عربية معلنة، في الاعلام والشارع، ضد كل ما هو اميركي، فكان لا بد من تحرك لتطويق هذه الكراهية، واخترع البيت الابيض شعاراً اسمه «تحسين صورة اميركا»، واستعاد مبادرة الحوار مع الآخر وزاد عليها، فأسس وسائل اعلامية تخاطب العرب بطريقة زادت الطين بلة، ووضع خطة لزيارات مسؤولين في الادرة لهذه المهمة، كلهم فشلوا، وكان آخرهم كارين هيوز مساعدة وزيرة الخارجية لشؤون العلاقات العامة التي أنهت زيارة فاشلة الى مصر، لأنها بأختصار تقوم بمهمة مزيفة وتريد اقناع الشارع العربي بأن قتل عشرات الآلاف من البشر في العراق، وتغيير خارطة المنطقة، وتكريس الطائفية، وتقسيم العراق، وأشعال الفتن والحروب الاهلية، وفرض منطق الاذعان والهيمنة، مهمة «نبيلة»!
لا يوجد في التاريخ القديم او الحديث حرب وصفت بأنها «نبيلة» مهما كانت عدالتها، فكيف اذا كانت هذه الحرب هي الحرب الاميركية على العراق، التي قتلت من الابرياء، حتى الآن، ما يوازي عشرة اضعاف من قتلوا غيلة وظلماً في الهجوم الارهابي على نيويورك، بشهادة الاميركان انفسهم، وزادت من عنف الارهاب، فضلاً عن أن هذه الحرب رفضت حتى من أولئك الذين تستروا عليها، او مارسوا تزييف اسبابها، وكان ابرزهم كولن باول وزير خارجية اميركا السابق الذي استدرك متأخراً انه كذب على مجلس الامن في ذلك التقرير الذي كان ذريعة واشنطن لشن العدوان على العراق.
واشنطن تدرك جيداً أن أهم شرط في نجاح حملة العلاقات العامة، هو ازالة اسباب المشكلة قبل البدء بترميم آثارها، وليست في شك ان حملتها الراهنة لن تجدِ نفعاً في ظل استمرار سياستها الامبريالية التي يراد تلطيف او تبرير أو تغيير اضرارها. والمسؤولون العرب الذين التقتهم أو ستلتقيهم السيدة هيوز مقتنعون تماماً بأن تحسين وجه الادارة الاميركية يحتاج قبل الكلام الى تنفيذ مهمات على الارض أولها اعلان جدول زمني لانسحاب قوات الاحتلال الاميركي والبريطاني من العراق، وعدم العبث بالتركيبة السياسية والطائفية في هذا البلد، والفصل بين الارهاب ومقاومة الاحتلال، فضلاً عن وقف هذا الدعم الفاجر للبربرية الاسرائيلية، والتحريض على العرب والمسلمين. وبدون خطوات جدية على هذا المستوى فإن وجه اميركا الجميل، الذي صار رمزاً للحرية واحترام الانسان والعدالة، سيزداد قبحاً، وسيولد هذا القبح السياسي سلوكاً أقبح منه، وسيتحول الارهاب من نزوة عابرة في تاريخ العرب والمسلمين الى مرحلة تاريخية طويلة الله وحده يعلم متى واين تنتهي. لكن هل ستسمع هيوز هذا الموقف، واذا سمعت هل ستقتنع؟ أشك في ذلك.
التعليقات