الثلاثاء:03. 01. 2006
د. محمد عابد الجابري
من المعروف في تاريخ الديانات وخاصة المسيحية منها أن عقيدة التثليث لم تظهر إلا بعد وفاة السيد المسيح عليه السلام كنتيجة لاحتكاك المبشرين والحواريين مع الفكر اليونانيmiddot; ومعلوم كذلك أن الفلسفة اليونانية تضع وسيطا بين الإله المتعالي الواحد المنزه التنزيه الكامل، وبين الكون والإنسانmiddot; كان أفلاطون قد قال بضرورة التمييز بين الإله المتعالي، وبين الإله الصانع الذي يرجع إليه صنع العالم وتدبيره، وانتشرت هذه الفكرة بعده واتخذت صيغا مختلفة لدى التيارات التي يجمعها اسم ''الأفلاطونية المحدثة''middot;
وما نريد الخوض فيه في هذا المقال هو أن نبين كيف حدث تأثير هذا التصور اليوناني للألوهية في عقيدة التثليث المسيحية وما ترتب عن ذلك من نتائج في المجال الذي نتحرك فيه والذي أسميناه ''محيط القرآن الكريم''middot; ونحن نطلب من القارئ أن يتسع صدره معنا حتى نتمكن جميعا من الخروج عن شرنقتنا التقليدية والانفتاح على التاريخmiddot; إنه بدون هذا الانفتاح على ''المحيط '' لن نستطيع فهم أبعاد العقائد الدينية السماوية، اليهودية منها والمسيحية والإسلامية، ولا تدشين حوار حقيقي بين الأديانmiddot;
نقرأ في الكتب الدينية المسيحية (الأناجيل) أن أحد علماء اليهود المتفلسفين -واسمه الأصلي شاول- كان من ألد خصوم السيد المسيح عليه السلام ومن أقساهم على أتباعه، لكنه ما لبث أن اهتدى وصار من أكبر أقطاب الدعوة المسيحية، خاصة في العالم الوثني اليوناني الروماني خارج المجتمع اليهودي بفلسطين، وقد سمي ولقب بسبب نشاطه التبشيري العظيم هذا بـ''بولس الرسول''middot; ويقول مؤرخو الفكر المسيحي إنه أول من قام بالتوفيق بين العقيدة التي بشر بها السيد المسيح التي تقول بإله واحد، وبين الأفلاطونية المحدثة التي تقول بضرورة الوسيط بين الله والعالم، معتمدا في ذلك على فكرة ''التثليث''، وقد حدث ذلك حوالي عام أربعين للميلادmiddot;
نشر بولس الذي انقطع ''لهداية الوثنيين'' (=غير اليهود) هذه الفكرة في رحلاته التبشيرية من سوريا إلى آسيا الصغرى، إلى اليونان إلى إسبانيا لتنتهي به الرحلة إلى روما عام60مmiddot;
واستمر احتكاك المسيحية بالفلسفة في الإسكندرية بصفة خاصة حيث ازدهرت هي والعلوم اليونانية منذ عهد البطالمة (القرن الثالث قبل الميلاد)، وكانت قد انتقلت إليها المسيحية في وقت مبكر إذ تأسست كنيستها القبطية عام 42 للميلادmiddot; وعندما ألف الحواريون الأناجيل الأربعة واتخذت المسيحية صورة عقيدة مرسمة حصل اصطدام بين الفلسفة والدين، تحت فضاء المسيحية وبرزت، هناك في الإسكندرية، محاولات للتوفيق بين العقيدة التي تقررها تلك الأناجيل وبين ما تقرره الأفلاطونية، من مبادئ ورؤى، ومن أبرز من قام بذلك الأسقف الفيلسوف الإسكندراني: أوريجيــــــــن Origegrave;ne 185-4middot;25
وبخصوص الموضوع الذي يهمنا هنا، موضوع تصور ذات الله، تبنى أوريجين التصور الأفلاطوني للإله المتعالي فقال بالتنزيه المطلق: الله روح مطلق لا علاقة له بالمادة إطلاقا، وإذا كان الكتاب المقدس يصف الله بصفات أو يسميه بأسماء لا تتفق مع كونه روحا مطلقا، مثل وصفه بأنه نور ونفَس وروح، فيجب في نظره أن يحمل ذلك على المعنى المجازيmiddot; أما الله في حقيقته فمستقل كل الاستقلال عن كل ما هو مادي، فهو لا يتحدد لا بالزمان ولا بالمكان، وبالتالي يمتنع علينا إدراك حقيقته أو التعبير عنهاmiddot; إن هذا يعني أن المسيح، مثله مثل أي كائن آخر، لا يشارك الله في حقيقته، وبالتالي فعيسى عليه السلام ليس من طبيعة إلهية بل هو من طبيعة بشريةmiddot; وفي الوقت الذي كانت فيه هذه الآراء تستقطب أشياعا ظهر في الإسكندرية أسقف أصله من ليبيا واسمه آريوس Arius, Arrious. كان هذا الرجل قد درس في أنطاكية حيث تأثر بآراء ''الذين قالوا إنا نصارى'' والذين تحدثنا عنهم في المقال السابق، ثم جاء إلى الإسكندرية لمتابعة الدراسة بها فتأثر بأفكار أوريجين وتحمس لها وصار يدعو إليها وكان فصيحا قوي الشخصية فتبعه كثير من رجال الدين وجمهور الشعب الشيء الذي جعله يعين في منصب أسقف كنيسة بوكاليس في الإسكندرية حوالي عام323 للميلادmiddot; وقد شنها ثورة عارمة على القول بألوهية المسيح، مؤكدا بشريته، مقررا أن الآب وحده هو الإله الخmiddot; ومن هنا وُصِف هو وأتباعه بـ''الموحدين''middot; كان يقول: ''إذا كان اللـه الآب مطلق الكمال، ومطلق السمو، ومطلق الثبات، وإذا كان منشئ كل الأشياء دون أن يكون ذاته صادراً عن أي شيء آخر فإنه من الواضح أنّ كل شيء وكل شخص آخر في العالـم منفصل عن اللـه (middot;middot;middot;) وإذا كان كل شيء منفصلاً عن اللـه، فلابد إذن أن يكون يسوع أيضاً منفصلاً عن اللـه''middot;
أحدثت آراء أريوس الجريئة هذه أزمة خطيرة على الصعيدين الديني والسياسي في الإمبراطورية البيزنطية، فانقسم رجال الدين والجمهور المسيحي حولها إلى مؤيدين ومعارضينmiddot; كان جل مؤيدي أريوس من عامة الشعب والفقراء خاصة، بينما كان معارضوه من أعمدة النظام الكهنوتي وأشياعهmiddot; كانت أزمة استمرت أزيد من سنتين (318-320م)middot; ومن أجل وضع حد لهذه الأزمة تدخل الإمبراطور ''قسطنطين العظيم'' إلى جانب أريوس أولا، ثم ما لبث أن عاد فوقف إلى جانب الكنيسة ورجالهاmiddot; وللفصل في الأمر دعا رجال الدين إلى عقد مجمع مسكوني في نيقيه عام 325م، لإيجاد حل كهنوتي لهذه المسألةmiddot; وقد قرر هذا المجمع طرد آريوس وأصحابه علــــى أساس أنهـــــم فرقـــــة ضالــــة مبتدعـــة، ووضـع المجمع ''قانون الإيمان'' المسيحي الـــذي ينص علـــى ألوهيــة المسيح، ويرســـِّم عقيــدة التثليتmiddot;
قامت معارضة شديدة واسعة في وجه ''قانون الإيمان'' ذاكmiddot; رفضه أريوس وعارضه كثير من أتباعه، الذين نشطوا في الدعاية لمذهبهم التوحيدي ''التنزيهي''، فاستطاعوا التأثير على كثير من أعضاء الكنيسة في فترات متقطعة لسنوات عديدة بعد مجمع نيقيهmiddot; ومع أن المجمع المسكوني المنعقد عام 381م في القسطنطينية قد رسَّم ''قانون الإيمان'' المكرس للتثليث، إلا أن أتباع أريوس قد استطاعوا الاستمرار في نشر مذهبهم التوحيدي في أنحاء كثيرة من الإمبراطورية البيزنطية، وفي شمال الجزيرة العربية بصفة خاصة: في سوريا وفلسطين والأردن والعراقmiddot;middot; الخmiddot; أما المذهب الرسمي فلم يلبث أن شهد هو الآخر انقسامات داخله، فظهرت جماعات أخرى ما لبثت أن دخلت في صراعات مع بعضها بعضا، منها جماعات قالت بآراء جديدة تحاول الجمع بين الطبيعتين، اللاهوتية والناسوتية، في شخص السيد المسيح فاعتبرت هي الأخرى مبتدعةmiddot;
ومما يجدر ذكره في هذا الصدد أن أتباع أريوس قد تمكنوا من نشر دعوتهم في جهات مختلفة من حوض البحر الأبيض المتوسط، فكان لها حضور قــوي في إسبانيا، إذ استطـــاع الأريوسيون تحويل الفزيقوط سكانها إلى الأريوسية بقيادة الكاهن أولفيلا (أو وولفيلا) 311-383 Ulfila, Ulfilas ou Wulfila الذي اعتنق مذهب أريوس وترجم التوراة إلى لغة الفيزيقوطmiddot; وقد اتخذت الأريوسية في إسبانيا طابعا سياسيا فاستقلت عن الإمبراطورية الرومانية عندما سقطت روما سنة 476م تحت ضغط ثوار النواحي (الباربار)، وقام هؤلاء الثوار في كل مكان بعزل الأساقفة التابعين لكنيسة الدين الرسمي للدولــــة ونصبوا مكانهـــم أساقفة مــن أتبـــاع أريوسmiddot;
استمر المذهب الأريوسي قائما في إسبانيا ولم يتم القضاء عليه فيها إلا عندما اعتنق الملك ريكاريد الأول الكاثوليكية عام 559مmiddot; ويرى بعض الباحثين في هذا التغلغل لمذهب أريوس في إسبانيا عاملا كان له تأثير كبير في تحولها إلى الإسلام بسهولة عندما فتحها طارق بن زياد عام 92هـ الموافق لـ 711 ميلاديةmiddot;
تعرف المسلمون على مذهب أريوس وسموا أصحابه بـ''الموحدين''، وقد أطلق بعض كبار المفسرين في الإسلام (ابن كثير مثلا) على هذا الرجل اسما إسلاميا فدعوه ''عبد الله ابن أريوس'' كما أفاض بعض المؤرخين المسلمين في الحديث عنه وعلى رأسهم ابن خلدون الذي نقل في تاريخه صفحات طويلة من كتاب لمؤرخ روماني قريب العهد بالفترة التي نتحدث عنها، وكان هذا الكتاب قد ترجم إلى العربية في الأندلسmiddot;
ونحن إذا كنا نولي هنا أهمية كبرى لهذا الرجل وفرقته فلأننا نجد في السيرة النبوية ما يدل بالقطع على أن الرسول عليه السلام كان مهتما بأتباع هذه الفرقة داخل الجزيرة العربية وخارجها، كما سنرى لاحقاmiddot;













التعليقات