يبدو أن المساومات الأخيرة لإنهاء الحرب في أوكرانيا ترتكز على ثلاثة عناصر، اثنان منها يمكن وصفهما بـ«الوعود المستقبلية» وعنصر واحد «للتسليم الفوري». ويتعلق جزء «التسليم الفوري» باتفاق يسمح لروسيا بالاحتفاظ بالجزء الذي احتلته من إقليم دونباس؛ وهذا هو ما يصفه الرئيس الأميركي دونالد ترمب بـ«التنازل الإقليمي» من جانب أوكرانيا.
وفي لقائه الأخير مع المستشار الألماني فريدريش ميرتس في برلين، بدا أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قد قبل بهذه النتيجة، مع تحفظ بأن يتم اعتبارها أمراً واقعاً وليس اعترافاً قانونياً شرعياً.
وفي المقابل، يرغب زيلينسكي في الحصول على ضمانات أمنية غير محددة من الولايات المتحدة، وهو أمر قد يمنحه إياه ترمب، عبر حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي، لعلمه أن الحصول على ضمان قانوني ملزم وقاطع قد لا يحدث أبداً.
أما الجزء المتعلق بـ«الوعود» في الصفقة المفترضة، فينص على ضرورة قيام أوكرانيا بخفض حجم جيشها إلى النصف، والتعهّد بعدم السعي أبداً لعضوية «حلف شمال الأطلسي». وكما قد تتوقع، فإن هذه الوعود ليست سوى «ذريعة» دبلوماسية لحفظ ماء وجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من الإحراج؛ إذ يمكن تجاهل كليهما في مستقبل لا يمكن لأحد التنبؤ به.
ونتيجة لذلك، فإن ما يهم الآن هو التنازلات الإقليمية التي طالب بها بوتين. ولا يبدو أن مستقبل شبه جزيرة القرم المحتلة جزء من المفاوضات الحالية؛ وبما أنه لم تعترف أي من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بضم روسيا لها، فإن وضعها سيبقى غير يقيني.
ولكن حتى إن حصل بوتين على ما يريد في «دونباس»؛ فمن غير المرجَّح أن يحقق نصراً دائماً يبرر حرباً كانت هي الأعلى تكلفة من حيث الدماء والأموال في التاريخ الروسي، منذ أربعينيات القرن الماضي؛ فبعد أن بدأ بهدف مُعلن يتمثل في إلحاق أوكرانيا بالكامل بروسيا بطريقة أو بأخرى، سيضطر الآن إلى القبول بإجمالي 30 ألف كيلومتر مربع من الأراضي؛ وهي ليست سوى منطقة عازلة ضئيلة للغاية مقارنة بمساحة أراضي روسيا الاتحادية التي تبلغ 17 مليون كيلومتر مربع.
إن الرأي السائد اليوم هو أن بوتين يمتلك أوراقاً أقوى للعب بها من زيلينسكي، وقد يكون هذا صحيحاً؛ فقد تزعزعت مكانة زيلينسكي بشدة بسبب فضائح الفساد التي جرت تحت أنظاره، وفشل الكفاءة الذي يغلب على أجزاء كثيرة من حكومته. ومن ثم، فقد يكون مستعداً لتقديم التنازلات التي يطالب بها بوتين وترمب، وإن كان ذلك بنبرات مختلفة.
ومع ذلك، سيكون من الخطأ المبالَغة في تقدير الميزة التي قد يدعيها بوتين في هذا المنعطف. إن حقيقة استعداده لقضاء ساعات مع مبعوث ترمب الشخصي، ستيف ويتكوف، متجاهلاً بذلك كل البروتوكولات، هي علامة - إن لم تكن على اليأس - فعلى الأقل على ضعف الأوراق التي يمكنه اللعب بها.
قد يحصل بوتين على دونيتسك ولوهانسك، ولكن هل سيكون قادراً على «روْسَنتِهِما» (تحويلهما للصبغة الروسية)؟ الإجابة قد تكون: «كلا». لقد أسفرت الحرب عن طرد نحو 40 في المائة من السكان من قراهم ومدنهم؛ إذ هرب أكثر من نصفهم إلى الداخل الأوكراني، في حين أصبح النصف الآخر لاجئين في روسيا نفسها. وقد حاولت موسكو تحويل مدينة ماريوبول شبه المدمرة - وهي «جوهرة تاج» انتصاراتها في هذه الحرب - إلى واجهة عرض لمدى جمال الحياة تحت الراية الروسية.
لقد شُيدت العشرات من المجمعات السكنية الجديدة، غالباً بأسلوب العمارة الستالينية الذي كان ليرضي غدانوف وغيره من منظّري «الواقعية الاشتراكية».
ومع ذلك، فإن أغلب «هدايا الشعب الروسي» تلك... لم تجد من يقبلها؛ إذ يرفض اللاجئون الأوكرانيون العودة، كما لم يسارع المستوطنون الروس (إثنياً) إلى استيطان هذه المناطق الجديدة. أما المراسلون الذين زاروا تلك «المدينة النموذجية»، فقد وجدوها مدينة أشباح، يسكنها كبار السن الذين لم يتمكنوا من الفرار، مع حفنة من المرتزقة القادمين من أميركا اللاتينية أو أفريقيا.
إن روسيا، التي تعاني من واحد من أدنى معدلات المواليد في العالم، بالإضافة إلى «نزف ديموغرافي» دفع بملايين الشباب الروس إلى المنفى، تفتقر إلى الفائض السكاني اللازم لبناء المستعمرات والإمبراطوريات.
كنا نعلم ذلك مسبقاً حينما اصطدمت خطة بوتين الطموحة التي أطلقها قبل عقد من الزمان لتوطين سيبيريا - المعروفة بخطة «منطقة الشرق الأقصى الفيدرالية» - بجدار صلد.
فعلى الرغم من الوعود بتقديم أموال مقابل الاستقرار، وعقود ملكية الأراضي، والمنح والقروض من دون فوائد لتأسيس الأعمال، لم يبتلع الطُعم سوى بضعة آلاف من الروس الإثنيين. وفي نهاية المطاف، اجتذبت الخطة أعداداً كبيرة من المستوطنين والعمال الموسميين الصينيين، إضافة إلى «مقيمين مؤقتين» من كوريا الشمالية يأتون ويذهبون عبر الحدود.
إن التاريخ زاخر بالأمثلة على كيف أدى «العجز الديموغرافي» إلى إحباط مخططات بناء الإمبراطوريات.
ففي القرن التاسع عشر، ضمَّت روسيا مساحات شاسعة من الأراضي في وسط آسيا والقوقاز، لكنها لم تستطع تغيير هويتها العرقية؛ لأن الإمبراطورية القيصرية - على عكس الإمبراطورية البريطانية في ذلك الوقت - لم تكن تُنتج عدداً كافياً من المواليد.
وفي أربعينات القرن الماضي، ضمَّت روسيا 10 في المائة من أراضي فنلندا، لكنها لم تنجح قَطّ في استبدال السكان الفنلنديين الإثنيين الذين فروا عبر الحدود. كذلك ضم «الرايخ الألماني» الناشئ حديثاً بقيادة بيسمارك المقاطعتين الفرنسيتين «الألزاس واللورين»، مما أدى إلى فرار جزء كبير من السكان إلى أجزاء أخرى من فرنسا، بينما كان الرايخ يفتقر إلى الاحتياطي الديموغرافي اللازم لإعادة توطين الأراضي المضمومة. وفي المقابل، وبفضل الازدهار الديموغرافي، تمكنت إسبانيا والبرتغال وفرنسا من بناء إمبراطوريات في ثلاث قارات. إلا أن الحرب العالمية الأولى أوقفت طفرة المواليد في فرنسا.
وبالعودة إلى المأساة الأوكرانية، قد يكتشف بوتين أنه حتى لو سُمح له بضم جزء من دونباس، فإنه سيفشل في «روسنتها». إن شعور روسيا التاريخي بعدم الأمان - الذي يمكن القول إنه السبب الجوهري لعدوانيتها - لن يُعالج بوجود منطقة عازلة واهية، ستحتاج بمرور الوقت إلى منطقة عازلة أخرى لتوفير الأمن لها.
إن بوتين يفكر في قضايا القرن الحادي والعشرين بعقلية القرن التاسع عشر؛ فروسيا تفتقر اليوم إلى المزايا التي كانت تتمتع بها في القرن التاسع عشر. أما اليوم، فتظهر الإحصاءات الرسمية الروسية أن البلاد تواجه نقصاً في العمالة يتجاوز أربعة ملايين شخص لإبقاء اقتصادها واقفاً على قدميه، وتحتاج لمئات الآلاف من الشباب والشابات لتعويض الخسائر التي تكبدها جيشها في هذه الحرب العبثية.
ربما تكون العبرة من هذه المأساة هي: لا تُحمّل نفسك ما لا تطيقه، وإذا كنت ترغب في الفوز بالحروب وبناء إمبراطورية... فأنجب الأطفال.















التعليقات