السبت:07. 01. 2006
د. عبدالله المدني
عندما يفتح التاريخ سجلاته ليدون فيها الكلمة الأخيرة عن الراحل الكبير الشيخ مكتوم بن راشد بن سعيد آل مكتوم، سوف يكتب إلى جانب تاريخ رحيله أن الأقدار أبت إلا أن يتوقف قلبه الكبير عن النبض بعيدا عن الوطن الجميل الذي عشقه بكل جوارحه ووهبه زهرة شبابه وعصارة خبرته، حتى غدا أنموذجا للأوطان وتجربة فواحة يشار إليها بالبنان في كل محفل وينتشي بعطرها الجميعmiddot;
كما سيتوقف التاريخ ملياً عند الطريقة الحضارية السلسة التي انتقلت وفقها أمور ومقدرات الإمارة الفتية إلى شقيقه وخليفته ورفيق دربه الطويل صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتومmiddot; وهي طريقة لا تختلف عن طريقة أيلولة رئاسة الدولة في العام المنصرم من الوالد الباني المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان إلى نجله صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد، والتي كانت تأكيداً على أن مسؤولية أوطاننا تنتقل من جيل إلى آخر دون احتقانات أو صدامات خلافاً لما يحدث في البلاد الأخرى، وبما يضمن الاستمرارية والتلاحمmiddot;
غير أن ما كتبه التاريخ قبل الرابع من يناير 2006 عن الرجل كثير، بل عظيم بقدر عظمة صاحبه، وكبير بقدر ريادة دبي التنموية ومنزلة دولة الإمارات الساميةmiddot; فمكتوم كان أولاً نتاج مدرسة والده المغفور له راشد بن سعيد آل مكتوم الذي عركته التجارب وملكته الحياة حكمة وبصيرة نافذة، فعرف مبكراً كيف يستثمر ويدير باقتدار موارد محدودة وإمكانيات متواضعة من أجل أهداف وطموحات كبيرة دون جعجعة وشعارات فارغة من تلك التي اعتاد عليها بعض الزعماءmiddot;
ومكتوم كان - ثانياً- ذراع والده الأيمن في عملية البناء والتحديث ومبعوثه إلى المهمات الصعبة منذ أن تولى الأخير حكم دبي في عام ،1958 فخبر دهاليز الحكم والإدارة والاتصالات الخارجية منذ ريعان شبابه، مما أهله ليحل مكان والده في سنوات مرض الأخير في الثمانينيات وليدير شؤون الإمارة بالقدر نفسه من الحكمة وبعد النظر وكفاءة التخطيطmiddot;
ومكتوم كان -ثالثاً- صانع القرار الذي استطاع وهو يبدأ مشواره في الحكم في عام 1990 أن يحافظ بما تراكم لديه من تجارب على زخم التنمية وحركة البناء والتعمير والاستقرار الداخلي دون أدنى تراجع أو اختلال، رغم الأحداث الخطيرة التي عصفت بمنطقة الخليج في ذلك العام وتداعياتها التي فرضت حالة عامة من الركود والخوف والتقشف لبضع سنواتmiddot;
ومكـــــتوم كـــــــان -رابعاً- رجل الدولة الذي استثمر قدراته ومواهبه وعلاقاته ومكانة إمارته في تعزيز وتمتين الصرح الاتحادي الذي شارك في وضع لبناته مع والده، وذلك انطلاقاً من إيمان عميق بالوحدة والتكاتف ما بين الإمارات السبع وبضرورة المحافظة على الكيان، الذي أرساه الآباء المؤسسون، كأول نموذج وحدوي ناجح وقابل للاستمرارية في تاريخ العرب الحديثmiddot;
وأخيراً كان مكتوم صاحب الخصال الفريدة والأساليب المميزة في طريقة الحكمmiddot; إذ آثر من منطلق الإيمان بجدوى توزيع الأدوار وتقسيم العمل والاعتراف بمواهب الآخرين، ألا يستأثر وحده بصناعة القرار وألا يحصر كافة الصلاحيات في شخصه على نحو ما هو شائع في العديد من البلاد الناميةmiddot; ومن هنا برز ذلك التعاون المدهش بينه وبين شقيقيه حمدان ومحمد لخير دبي والإمارات ولرفاهية ورخاء مواطنيهمmiddot;
تحولت دبي في عهد الشيخ مكتوم إلى أكبر ورشة تعمير وتنمية في العالم، وإلى قبلة يتهافت عليها الباحثون عن الفرص والحالمون بالرخاء والطامحون إلى الراحة والخدمات المتميزة، وبطريقة جعلتها تتجاوز حلم زرع سنغافورة جديدة في قلب الصحراء الخليجية إلى أحلام أكبر في التفرد والريادةmiddot; إن رحيل مكتوم، الذي لم أحظ شخصياً بمقابلته سوى مرة يتيمة في العاصمة البريطانية، لهو دون أدنى شك خسارة كبيرة، ليس للإمارات وحدها وإنما لكل وطن من أوطان خليجناmiddot; ولعل ما يخفف من فداحة الخسارة هو أن الراية انتقلت الآن إلى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد الذي هو حقاً خير خلف لخير سلف، بما عرف عنه من ديناميكية وحكمة وسعة أفق ومواهب قيادية فريدة، إلى جانب الخصال المعروفة عن حكام الإمارات بصفة عامة في الحرص على التواصل مع شعوبهم، والتفاني من أجل رخائهم وازدهارهم، والعمل من أجل إبعاد بلادهم عن بؤر الصدام والتوترmiddot;
التعليقات