الثلاثاء:10. 01. 2006
د. وحيد عبد المجيد
ما أشبه الليلة بالبارحة، فالخوف الذي أثاره صعود جماعة ''الإخوان المسلمين'' في الانتخابات البرلمانية المصرية التي أجريت قبل أسابيع قليلة، حدث مثله مع تصاعد دور هذه الجماعة عقب الحرب العالمية الثانيةmiddot; خوف يتجدد بعد 60 عاماً تقريباً، ولكن بشكل مختلفmiddot; فالكثير تغير في مصر وفي المنطقة والعالمmiddot; ومع ذلك يظل الفزع الذي تنطق به سطور كتاب صدر في عام 1946 تحت عنوان ''الإخوان المسلمون في الميزان'' قريباً في قسماته ودوافعه من الخوف الذي أثاره صعود ''الإخوان'' عام 2005 في كثير من الأوساط المصريةmiddot; مؤلف الكتاب الذي صدر قبل 60 عاماً، ويعيد نشره الآن أحد الناشرين المصريين، ناشط يساري هو عبدالرحمن الناصر الذي كان معيداً في كلية العلوم جامعة القاهرة عندما نشر هذا الكتاب باسم مستعار هو ''محمد حسن أحمد''middot; وقد أخفى اسمه ليس فقط بسبب خوفه من ''الإخوان''، ولكن أيضاً لضرورات العمل السياسي السري لأنه كان عضواً في أحد التنظيمات ''اليسارية'' المحظورة حينئذmiddot;
لم يكن هذا الكتاب الوحيد الذي عبر عن خوف من أن تقع مصر بين يدي تنظيم يعتمد على شعارات دينية ولا يمتلك برنامجاً ولا رؤية واضحة للمستقبلmiddot; ولكنه كان الكتاب الأول الذي فتح الباب لكتب أخرى توالت وكان أهمها وأشهرها كتاب ''من هنا نبدأ'' للأستاذ خالد محمد خالد الذي صدر في مطلع middot;1950
كانت مصر قد خرجت لتوها من الحرب العالمية الثانية منهكة على كل صعيدmiddot; وبدا النظام السياسي، الذي كان قد دخل في حالة جمود، عاجزاً عن استيعاب التغيير الاقتصادي والاجتماعي السريع في ذلك الوقت، وعن احتواء جيل جديد لم يجد له مكاناً في هذا النظامmiddot; كان الوضع قلقاً غداة الحرب الثانية، مجتمع ازدادت تناقضاته على كل صعيد، ونظام سياسي ازداد جموده وعجزت نخبته عن قراءة التحولات التي تفور تحت السطح فبقيت على اطمئنانها في ظرف لم يكن فيه ما يطمئنmiddot; وفي وضع قلق على هذا النحو، وإلى هذا المدى، لم تكن الحركة الوطنية الجديدة ذات البعد الاجتماعي قادرة على إحداث التغيير الذي اشتدت حاجة المجتمع إليه بطريقة ديمقراطيةmiddot; كما لم يكن في إمكانها أن تطمئن الخائفين من مستقبل غامض لا يعرفون ما ينتظرهم فيه، كانت أضعف من أن تغير، ومن أن تبث الأملmiddot;
وفي هذه الأجواء، تصاعد نشاط ''الإخوان المسلمين'' على نحو زاد بعض الخائفين خوفاًmiddot; كان الخوف يسكن أجواء تلك الفترةmiddot; حالة عدم يقين انتشرت في مجتمع تخلت عنه الحركة الوطنية التقليدية، ولم تنضج فيه بعد الحركة الوطنية الجديدة التي تبلورت بشكل أولي خلال حركة الطلبة والعمال عام middot;1946
ولذلك، أخذ الخوف يسري من الدور المتصاعد لجماعة ''الإخوان المسلمين''، بسبب تنظيمها الخاص (السري) الذي أسسته بالرغم من أنها كانت جمعية علنية مسجلة في وزارة الشؤون الاجتماعيةmiddot; كما تسبب في هذا الخوف بعض أعضاء الجماعة من الشبان الذين كانوا يسلكون في داخل الجامعة وخارجها سلوكاً يشبه الميليشيات شبه العسكريةmiddot;
هذا السلوك، الذي تجدد خلال الانتخابات البرلمانية المصرية الأخيرة، هو أيضاً أحد أهم دوافع الخوف الذي تثيره الجماعة الآنmiddot; خرجوا إلى لجان الانتخاب في مجموعات شديدة التنظيم قوية البنيان كما لو أنها ميليشيات تستعد لحربmiddot;
لقد خرجوا إلى ''الجهاد'' دون أن تكون لديهم خلفية كافية عن معنى التنافس في الانتخاباتmiddot; لم يتح لهم نظام التنشئة في داخل الجماعة فرصة كافية لفهم أن الخصم السياسي ليس عدواً ولا كافراً، وأن الفائز لا يملك البلاد والعباد وإنما يحصل على تفويض مؤقت زمنياً حتى موعد الانتخابات التالية وموضوعياً لأنه مقيد بقواعد النظام الديمقراطي التي لا يحق له أن يخرج عليها أو يغير فيهاmiddot;
ولكن المشترك بين الخوف من ''الإخوان'' في مصر عام 1946 وعام ،2005 لا يقتصر على نوع تنظيمهم الحديدي المنغلق على نفسهmiddot; ففي الواقع الموضوعي ما هو مشترك أيضاً، فقد صعد ''الإخوان'' عام 2005 في لحظة تاريخية يبدو تطور المجتمع المصري فيها محجوزاً بسبب جمود سياسي استمر لفترة طويلة من الزمنmiddot; وعندما يحدث هذا الجمود في مرحلة تشهد تغيراً اجتماعياً واقتصادياً واسع النطاق، يعاني المجتمع اضطراباً وبلبلة على النحو الذي حدث له غداة الحرب العالمية الثانيةmiddot;
استخدم مؤلف كتاب ''الإخوان المسلمون في الميزان'' قبل 60 عاماً تعبيراً كان دقيقاً في وصفه لحالة المصريين في ذلك الوقت، وفي الوقت الراهن على حد سواء، وهو تبلبل الخواطرmiddot; حدث ذلك عندما وجد المصريون أنفسهم في نهاية الحرب العالمية الثانية في حالة عدم يقين بشأن المستقبلmiddot; وهذه هي حالة المجتمع المصري الآن أيضاً بعد جمود سياسي طويلmiddot; مجتمع انتظر إصلاحاً تأخرmiddot; وعندما بدأ أخيراً، جاءت خطواته الأولى صغيرة ومعدلات تطوره بطيئةmiddot; ولكن الفرق هو أن النخبة السياسية والثقافية صاحبة المصلحة في الحفاظ على الدولة المدنية، والتي تصدت لصعود ''الإخوان'' عقب الحرب الكبرى الثانية، أصاب الكثيرين منها الآن مزيج نادر من الإرهاق والغضب فضلاً عن الفسادmiddot; أرهقتها الأحادية السياسية، وأغضبها انتشار الفساد بالرغم من أن فريقاً لا يمكن اعتباره صغيراً فيها تورط في أشكال من هذا الفسادmiddot; أما الأجيال الجديدة فهي في حالة انفصال تزداد من جيل إلى آخرmiddot; والعناصر التي بقيت على اتصال في هذه الأجيال هي التي تحولت إلى قاعدة للأصولية والسلفية الدينيةmiddot;
وهكذا ازداد الخوف من ''الإخوان'' في لحظتين تاريخيتين عانى المجتمع في كل منهما حالة تغيير مكبوت بدأ يفور تحت السطح، مما أدى إلى عدم يقين بشأن المستقبلmiddot; إنه مجتمع مبلبلة خواطره اشتد الغضب بالبعض فيه لتأخر الإصلاح فبات مستعداً لأن يلقي بنفسه في مجهول لا يعرف إلى أين سيأخذهmiddot; هذا المجهول ''الإخواني'' هو الذي يخشاه بعض آخر في هذا المجتمع لا يحب المغامرة ولا يريد أن ينتقل من وضع سيئ إلى وضع آخر قد يكون أسوأmiddot;
هذا الخوف من ''الإخوان'' الذي انتشر في تلك المرحلة، ويتجدد الآن في ظروف مختلفة، يثير سؤالاً هو: هل العيب في الخائفين من ''الإخوان''، أم في ''الإخوان'' أنفسهمmiddot; من حيث هم أفرادmiddot; فالكثير منهم طيبون وضحايا، بعضهم ضحايا نظام سياسي طال جموده، وبعضهم ضحايا مجتمع توحش بسبب حدة الصراع بين عدد كبير للغاية على فرص قليلة للغايةmiddot; وفي ظل هذا الصراع، لم يجد آلاف من الشباب كل عام إلا مظلة ''الإخوان'' الاجتماعية، وليست فقط الدينية، فاستظلوا بهاmiddot; والعيب أيضاً هو عيب التنظيم ''الإخواني'' الذي فاق النظام السياسي جموداً، واستثمر في الوقت نفسه جمود هذا النظامmiddot; إنه عيب نمط التنشئة السائد في هذا التنظيم والذي يخلو من قيم التعدد السياسي والثقافي والحوار الحر والتنافس السلمي وقبول الآخر والتسامح معه أياً يكن الخلاف معهmiddot;
وإذا كانت شمولية التنظيم من أهم دوافع الخوف منه، تصبح مراجعتها بداية إبعاد هذا الخوفmiddot; وهذا هو ما ينبغي أن يدركه قادة ''الإخوان'' الذين تفصل بين خطاباتهم السياسية العلنية مسافات مختلفة يصعب أن نجد مثلها في تنظيم آخر، فبعضهم يبدو كما لو أنه أكثر ''ليبرالية'' من جون لوك، بينما يبدو بعض آخر أقرب إلى سيد قطبmiddot;
وهذه مشكلة أخرى لا يحلها إلا إصلاح تنظيمي وفكري يقود إلى برنامج واضح ومحدد يمكن الحوار حوله اتفاقاً واختلافاً، وعندئذ فقط يمكن وضع حد لخوف الخائفين من ''الإخوان''middot;
التعليقات