الإثنين:16. 01. 2006

نيال فيرغسون

تساؤلات تثير شكوكاً حول انفراط عقد الاتحاد الأوروبي

يبدو أن البريطانيين بدأوا يستسيغون روايات باتريك أو براين، مصدر إلهام فيلم laquo;قائد وبارع: أقصى بقاع الأرضraquo;. ولقد انتهيت أخيراً من قراءة العمل الذي يحمل هذا العنوان، بتأخير واضح، لأقع على الفور في حساب الأسباب التي دعت إلى كل هذا الاهتمام بإحياء ذكرى المئوية الثانية لمعركة laquo;الطرف الأغرraquo;، في حين تعتبر تلك الحروب، انطلاقا من الموقع الاستراتيجي للكابتن جاك أوبري، شخصية الرواية، حروبا نابليونية تفسر بين صليات المدافع الجانبية للسفن ومصادماتها في أعالي البحار.

ونحن على قناعة بأن مصير الإمبراطورية البريطانية قد تقرر في البحر وليس هناك أي اعتراض بهذا الخصوص. لكن مصير أوروبا تقرر على أرض راسخة. ولهذا السبب، سأنحي أو براين جانبا وأستغرق من جديد في قراءة رائعة تولستوي laquo;الحرب والسلامraquo; وأسمح لنفسي، في هذه المناسبة، ببحث توني بلير على أن يحذو حذوي، خاصة وأن ذلك قد يساعده على أن يفهم بشكل صحيح تبعات ذلك العمل الأدبي في اللحظة الراهنة فيما يجهد نفسه بشكل شجاع، محاولة فاشلة، في سبيل إصلاح الملفات المالية العويصة للاتحاد الأوروبي.


تولستوي يصف في كتاب laquo;الحرب والسلامraquo; الثالث،بطريقة لا تنسى، معركة الأباطرة الثلاثة، معركةraquo; أوسترليتزraquo;، التي اكتملت مئويتها الثانية في 2 ديسمبر الماضي. والتي شكلت النصر الأكبر لنابليون بونابارت. وسيتذكر قراء تولستوي كيف وقع الروس في الهزيمة رغم الروح الوطنية البطولية التي كان يتحلى بها الأمير أندريه فولكونسكي، الذي أثار تعليق نابليون الشهير حين قال: laquo;موت رائعraquo;، حتى أن ذلك النصر اكتسب آنذاك مظهراً أهم من هزيمة الأساطيل الفرنسية في معركة الطرف الأغر.


وبفضل هزيمة الجيوش النمساوية والروسية المتآلفة، سمحت معركة laquo;أوسترليتزraquo; لنابليون بالعودة إلى رسم خارطة أوروبا مفسحا المجال، في ذلك الظرف،أمام استحضار فكرة اتحاد laquo;الراينraquo; أو الرابطة الألمانية. وبالإضافة إلى إجبار الإمبراطور النمساوي فرانسيسكو الثاني على التنازل عن لقب إمبراطور الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة، حرر نابليون شهادة وفاة مؤسسة كانت في قلب أوروبا على مدار أكثر من قرن. وكان شارلمان أو شارل العظيم قد توج إمبراطورا من قبل البابا ليون الثالث يوم الميلاد عام 800. وفي 6 أغسطس 1806، لم يعد لهذه الإمبراطورية وجود.


الفكرة التي كان نابليون يضمرها حيال أوروبا مثلت سيفاً ذا حدين. من جهة، دك نابليون عروش سلالات ملكية منحطة مثل البوربونيين في نابولي وأوجد ما كان سيشكل أنموذجا للأنظمة القانونية الشرعية القارية، قانون نابليون. ولقد أكد لاحقا، في المنفى، أنه كان يرغب laquo;بتأسيس نظام أوروبي ومنظومة أوروبية من القوانين ونظاماً قضائياً أوروبياً بغية فتح الطريق أمام ظهور شعب واحد فقط في سائر أوروباraquo;.


ومع ذلك وفي الوقت عينه، كانت أوروبا النابليونية، بشكل خاطئ، إمبراطورية شمولية، فلم تتردد ساعة في مراقبة وتوبيخ منتقديها وسجن منافسيها السياسيين. وعندما بسط نابليون قيادته وسيطرته خارج فرنسا، شكلت انتصاراته الضمانة المثلى لحملاته الحربية. وكان نابليون يجد متعة في تقديم نفسه على أنه محرر أوروبا وكذلك موحدها. لكن في الواقع لم يكن نابليون سوى الطاغية الأكثر قسوة من بين طغاة عصر التنوير.


أما العنصر الذي حسم، في نهاية المطاف، فكرة أوروبا النابليونية، فلقد تمثل في المركب المميت المكون من قناة المانش والشتاء الروسي وهو التجانس المستبعد نفسه الذي كان له تأثير كبير في حالة هتلر. مع ذلك ورغم أقصى الجهود التي بذلها الدبلوماسيون في كونغرس فيينا،إلا أنه تبين أن من المستحيل إعادة بناء أوروبا القديمة السابقة لنابليون. نابليون سقط والبونابرتية عمرت.


والقانون المدني والزعامة الاقتصادية استمرا ومثلا تركته الأكثر صلابة وثباتا. وبأية طريقة؟ اسألوا أنفسكم ما هي الاختلافات الكبرى بين أوروبا وانجلترا. الإجابة هي أن الأوروبيين لديهم القانون والنظام الاقتصادي النابليونيان، بينما الإنجليز الذين لم يتمكنوا من الانتصار عليهم وغزوهم، لديهم القانون العام والسوق الحرة.


وذلك هو السبب الذي من أجله يتعين على توني بلير أن يلاحظ مراراً وتكرارا أن شبح laquo; بونيraquo; قد عاد لتعذيبه وإيلامه. وكرئيس وزراء البلد الذي يزاول حالياً رئاسة الاتحاد الأوروبي، يثق بلير، ليس من دون سبب، في لعب دور بارز في الشؤون الأوروبية. بيد أن جهوده لإصلاح الميزانية الاتحادية قد أدت به إلى التصادم مع أي شخص يدافع عن أي وجهة نظر حول هذه القضية العويصة.


اسمحوا لي أن أبسط الأمور، للاتحاد الأوروبي ميزانية يسيرة تساوي حوالي ربع صافي الدخل الوطني للبلدان الأعضاء مجتمعة، التي تساهم في هذه الميزانية. أما الجزء الأكبر من هذه الأموال فيذهب إلى قطاعها الزراعي عديم الجدوى في إطار السياسة الزراعية المشتركة أو إلى مناطق مغبونة بشكل محدد.


وعندما تنتهي الجلبة، يمكن لكل بلد حساب إذا ما كان مساهما مستفيدا في المحصلة النهائية أم لا. في عام 1984، برهنت مارغريت تاتشر بنجاح على أن بريطانيا العظمى دفعت زيادة عن اللازم ومما قدر أنه أعيد للإنجليز،منذ ذلك الحين،الفارق بين ما يدفعون وما يتلقون. فهم يريدون إصلاح السياسة الزراعية المشتركة وسائر البلدان المتبقية تريد منهم أن يتنازلوا عن ذلك المرتجع.


بكل صدق أؤكد على أنه يتعين علي القول إنه ليس للتفاصيل أهمية كبيرة وأنا أعتبر هذا النظام السخيف يختزل الاختلاف الجوهري بين العقلية البريطانية والعقلية القارية ويرمز له، كما يبين لماذا تعرض هذا القران القائم منذ 30 عاما بين ضفتي قناة المانش لكل هذه الحوادث.


وحتى لو تم التأمل بعناية حول ذلك، فإنه ليس صحيحا كذلك أن تعز مشكلات وصعوبات توني بلير إلى إلحاحية التقليد البونابرتي في القارة الأوروبية. ففي المقام الأول، لم أعد متأكداً إلى أي درجة يجد الإنجليز أنفسهم مستعدين لتبني تقليدهم القانوني أو الاقتصادي الخاص.


فسيادة البرلمان وتقاليد القانون العام باتت متآكلة نتيجة التكامل الأوروبي، الذي أقر تفوق محكمة العدل الأوروبية. وفيما يتعلق بروح آدم سميث وأندرو نيل، أكد هايك في محاضرته الرائعة، التي ألقاها أخيرا في معهد الشؤون الاقتصادية في لندن،على أن الالتقاء معه في بكين يبدو أسهل من الالتقاء معه في بريطانيا العظمى.


وفي الوقت عينه وإذا ما تم معاينة القضية بصورة أعمق، فإن الاتحاد الأوروبي بشكله الحالي، على خلاف تشبيهه بأوروبا القائمة بشكل عقلاني على أحلام نابليون، يبدو نظاما عتيقا أكثر من الذي حاول أن يرسو عليه. ولقد عبر فولتير بشكل يثير الإعجاب عن ذلك قائلا إن الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة لم تكن مقدسة ولا إمبراطورية.


وقد يكون من الممكن قول الشيء نفسه عن الاتحاد الأوروبي، الذي يبدو أقل أوروبية وأقل وحدة مع كل عام يمر. كم من الوقت سيبقى الاتحاد الأوروبي حقيقيا وأوروبيا بشكل حقيقي، وذلك بحكم التغيرات السكانية العميقة التي تزيد، بلا رحمة، نسبة المسلمين إلى سكانه وذلك من دون الحديث عن تركيا التي تتفاوض حاليا لتتحول إلى آخر وأكبر شريك للمؤسسة؟


وبالإضافة إلى كل ذلك لابد من طرح أسئلة من نوع: هل الاتحاد الأوروبي الموسع هو اتحاد حقا؟ وهل هو اتحاد بالمعنى الذي عليه الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أم أنه بالأحرى أشبه بالشقاق الأوروبي العربي؟ كلما أخذ بعين الاعتبار سير عمل الاتحاد الأوروبي، ليس سير عمله وفقاً للدستور الجديد والحصيف الذي وثق الاتحاد في امتلاكه، والذي صفي من خلال الاستفتاءين الفرنسي والهولندي، وإنما وفقا للاتفاقات الإقليمية الموقعة في نيس عام 2001، كلما بدا أقل نابليونية وأشبه بالإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة العزيزة المحبوبة.


وبالتالي، فإن الاتحاد الأوروبي لن يمثل في أحسن الأحوال أكثر من كونفيدرالية وفي أسوأها مجرد سوق تعرض فيه البضائع في صندوق السيارات وستكون البضائع في هذه الحالة عبارة عن معاهدات وسلطات قضائية متراكبة. في بحثه الذي أجراه عام 1667 تحت عنوان laquo; وضع الإمبراطورية الجرمانيةraquo; وصف صمويل بوفندروف( 1632، 1694) الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة بأنهاraquo; كيان لا يستند لأي قانون ويشبه المسخraquo;.


ولقد فكرت مرارا وتكرارا بأن هذا الوصف ربما يمكن سحبه على الاتحاد الأوروبي كذلك، فكما في تلك الحالة، فإن للاتحاد الأوروبي برلمانا ضعيفا نسبيا، حيث كان laquo;الرايخستاجraquo; في الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة معادلا لبرلمان ستراسبورغ. وكما هو الحال في الإمبراطورية الرومانية الجرمانية، فإن المحكمة الأوروبية هي مؤسسة ذات أهمية رفيعة، رغم أن الرايخ الإمبراطوري (أعلى سلطة قضائية إمبراطورية) الذي أنشأ عام 1495 في laquo;وورمزraquo; كان له نظيره المنافس في laquo;الرايخشوفراتraquo;) مجلس البلاط الإمبراطوري)، تماماً مثلما للمحكمة الأوروبية نظيرها المماثل في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وكما كان حال الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة، فإن الاتحاد الأوروبي يمر في عملية إصلاح ذاتي متواصلة من دون أن ينالها أبدا.


في حقبتنا المتصفة بحضور قلائل واضطرابات يصعب الاهتمام بها، يبدو مستحيلا حتى تخيل لحظات مرت قبل 200 عام خلت أو العودة إليها. بيد أن مئوية laquo;أوسترليتزraquo; الثانية هي أكثر من قضية يتم تداولها في مجلس للفضوليين، لأن تذكر كيف قام نابليون بتصفية الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة لا يساعد على تبيان الاختلافات بين بريطانيا العظمى والقارة الأوروبية فحسب، وإنما يمكن أن يقدم دلالة ما حول المستقبل. وأنا أتساءل: من سيكون نابليون المقبل، الذي يدخل بروكسل لتصفية الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة في عصرنا هذا؟