الثلاثاء:17. 01. 2006

د. محمد عابد الجابري


أبرزنا في المقال السابق كيف أن شمال الجزيرة العربية كان قد صار، بعد ترسيم عقيدة التثليث، ملجأ للفرق الدينية المحرمة تدعو فيه لمذاهبها وتمارس نوعا من المعارضة للمحتل: الإمبراطورية البيزنطيةmiddot; ونضيف اليوم ظاهرة أخرى، راجعة هي كذلك، إلى ما كانت تتيحه جزيرة العرب من إمكانيات للتواصل والدعاية بسبب خلوها من دولة مركزية من جهة، وبفضل الطرق التجارية العالمية التي كانت تشقها من الشمال إلى الجنوب ومن الغرب إلى الشرق، من جهة أخرىmiddot; وإذا أضفنا إلى ذلك وجود مراكز دينية مهمة -لم تكن مكة إلا واحدا منها- تحج إليها القبائل العربية وتقيم حولها الأسواق، ليس فقط لتبادل السلع بل أيضا لـ''تسويق'' الأشعار والأفكار والقصص والأخبار، أدركنا كيف أن جزيرة العرب في ''الجاهلية'' لم تكن تقع خارج العالم، بل ربما يمكن القول إنها كانت تشكل مجالا لتلاقي الموجات التي كانت تنبعث باستمرار من ''قطبي'' العالم يومئذ: الفرس والرومmiddot;
إن استحضار هذه الصورة العامة (البانورامية) ضروري فيما نعتقد لفهم تلك الظاهرة التي اصطلح مؤرخو السيرة النبوية على التعبير عنها بـ ''دلائل النبوة''، أي ''البشارات'' والتطلعات التي بشرت ومهدت للدعوة المحمديةmiddot; يتعلق الأمر أساسا بظاهرتين متكاملتين: تبشير بعض الرهبان من اليهود والنصارى بقرب ظهور نبي جديد من جهة، والرحلة والسياحة للبحث عن ''الدين الحق''، دين إبراهيم، من جهة أخرىmiddot; ولابد من النظر إلى هاتين الظاهرتين ليس فقط من خلال ما تصرحان به، بل أيضا من خلال ما تسكتان عنهmiddot; نقصد بذلك أنهما كانتا نوعا من الدعاية ضد الإمبراطوريتين المتحاربتين والتبشير بقرب سقوطهماmiddot; وبما أن الدعاية في ذلك العصر، وفي جميع العصور تقريبا، توظف الدين كمطية للتواصل، وبما أن نجاح هذا النوع من السلاح يقتضي تجاوز الخلافات والرجوع إلى ''أصل'' سابق، فإنه من المفهوم تماما أن يطرح شعار ''العودة إلى دين إبراهيم''، جد الجميع (اليهود والنصارى والعرب)، دين الحنيفيةmiddot;
لنبدأ بظاهرة البحث عن ''النبي الأمي'' والتبشير به!
تؤكد الروايات التي جمعها مؤرخو السيرة النبوية على انشغال الناس، قبل قيام الدعوة المحمدية، بترقب نبي جديد، مع ظهور ميول توحيدية في مختلف أنحاء الجزيرة العربية، لدى كثير من الرهبان والقساوسة وغيرهم ممن تصفهم مصادرنا بكونهم ''حنفاء'' يبحثون عن الدين الحنيف، دين إبراهيم عليه السلامmiddot; وقد قام بعضهم برحلات وسياحات من أجل ذلكmiddot; والقول بنبي جديد معناه التنبؤ بقرب نهاية النظام الديني السياسي الذي قام على أساس دعوة نبي سابقmiddot; وبعبارة أخرى معناه التبشير بقرب سقوط الإمبراطورية التي تبني كيانها على تفسيرها للدين السابقmiddot; النبي الجديد سيأتي ليصحح الدين ولكن أيضا ليبشر بسقوط الدولة التي انحرفت بالدينmiddot; وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الطموح في قوله تعالى:
''الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الامِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ''middot;
والجدير بالإشارة هنا أمران: أولهما أن سورة الأعراف التي تضم هذه الآية سورة مكية (آية 157)، بمعنى أنها نزلت قبل الاحتكاك باليهود والنصارى في المدينة المنورة، وبالتالي فهي تنتمي إلى ''قرآن الدعوة'' وليس إلى ''قرآن الدولة''middot; وثانيهما أن صيغة المضارع وكذا الماضي في قرآن الدعوة كثيرا ما يراد بها ''المستقبل''، بمعنى تأكيد تحقق الفعل بإرادة الله وقضائهmiddot;
من الذين اشتهروا في مصادرنا بالبحث عن الدين الجديد سلمان الفارسي الذي يحكي بنفسه عن رحلتهmiddot; ومع أن حكايته لهذه الرحلة كانت ذات طابع قصصي، وبالتالي لابد أن يتخللها ما يتخلل القصص والحكايات عادة من إبداعات الخيال، فإنها ترسم، مع ذلك، مسارا لا يتناقض مع الوقائع التاريخية التي ذكرناها من قبلmiddot;
إن قصة سلمان الفارسي تدل بوضوح على أنه كان هناك بين الكنائس والأسقفيات، في جزيرة العرب قبيل الإسلام، ما يشبه أن يكون تنظيما -عبر الجزيرة كلها- يبشر بقرب ظهور نبي جديد ويجسم الرغبة في البحث عن الحقيقة الدينية، أو عن الدين الحقيقيmiddot; وفيما يلي ملخص هذه القصة كما نقلها ابن إسحاق، رواية عن ابن عباس الذي قال إنه سمعها من سلمان نفسهmiddot;
يقول سلمان عن نفسه إنه فارسي الأصل من أهل إصبهان وإنه من عائلة كانت تعتنق المجوسيةmiddot; وقد حدث ذات يوم أن مر بكنيسة تقام فيها الصلاة فأعجب بأصوات المصلين ودخل الكنيسة وتحدث مع القيِّم عليها الذي يبدو أنه أثر في سلمان الشاب إلى درجة جعلت هذا الأخير يعبر عن رغبته في الالتحاق بدين هذه الكنيسة في مركزه الأصليmiddot; ولما علم أن مركز هذا الدين يقع في الشام طلب من القيمين على الكنيسة تسفيره مع أول قافلة تجارية تتجه إلى الشامmiddot; وفي الشام التحق بأسقف في كنيسة ودخل في خدمته يصلي معه ويتعلم منهmiddot; ولما لاحظ سلمان أن هذا القس ''رجل سوء يأخذ الصدقات التي تدفع للكنيسة ويكنزها ذهبا ومالا''، نفر منهmiddot;
وحين توفى هذا الأسقف جاء أتباع الكنيسة بأسقف آخر زاهد في الدنيا، فأقام معه سلمان، ولما حضرته الوفاة طلب منه سلمان أن يرشده إلى من هو مثله من رجال هذا الدينmiddot; فأوصاه بالالتحاق برجل دين في الموصل كان على المذهب الذي كان عليه هوmiddot; ويواصل سلمان رحلته من أسقف تحضره الوفاة ويوصيه بالذهاب بعد وفاته إلى أسقف في مدينة أخرىmiddot; وهكذا فمن إصبهان إلى الموصل إلى عموريةmiddot; وعندما حضرت الوفاة أسقف عمورية طلب منه سلمان أن يرشده إلى أسقف مثلهmiddot; فأجابه الأسقف قائلا: ''أي بني! والله ما أعلم هل أصبح اليوم أحد من الناس على مثل ما كنا عليه فآمرك به أن تأتيهmiddot; ولكنه قد أطل زمان نبي، وهو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام، يخرج بأرض العرب''middot; غادر سلمان عمورية قاصدا بلاد العرب رفقة ركب من التجار باعوه في الطريق إلى رجل يهودي، ثم باعه هذا الأخير إلى يهودي آخر من بني قريظة ذهب به إلى يثرب، فأقام بها عبدا، إلى أن قدم النبي عليه السلام إليها مهاجرا من مكة، فعرف سلمان أنه الرجل الذي بشره به صاحبه في عموريةmiddot;
اتصل سلمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وقص عليه قصته، فرحب به الرسول وهيأ له ما يشتري به حريته، فانتظم في سلك الصحابةmiddot;
وقريب من قصة سلمان ما يروى في شأن من يعتبر ''شيخ الحنفاء'' قبيل ظهور الإسلام، زيد بن عمرو بن نفيل، ابن عم عمر بن الخطابmiddot; تقول الروايات إنه ''كان يرغب عن عبادة الأصنام وعابها، فأولع به عمه الخطاب سفهاء مكة وسلطهم عليه فآذوه فسكن كهفا بحراء، وكان يدخل مكة سرا''، ثم ''خرج إلى الشام يلتمس لدى أهل الكتاب دين إبراهيم ويسأل عنه، ولم يزل في ذلك فيما يزعمون حتى أتى الموصل والجزيرة كلها، ثم أقبل حتى أتى الشام فجال فيها حتى أتى راهبا ببيعة من أرض البلقاء كان ينتهي إليه علم النصرانية، فيما يزعمون، فسأله عن الحنيفية دين إبراهيمmiddot; فقال الراهب : إنك تسأل عن دين ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم، لقد درس من عَلِمَه، وذهب من كان يعرفه، ولكنه قد أطل خروج نبي وهذا زمانه''middot; ويروى أنه ''كان إذا دخل الكعبة قال: ''لبيك حقا حقا، تعبدا ورقا، عذ بما عاذ به إبراهيم وهو قائم، إذ قال أنفي لك عان راغم، مهما تجشمني فإني جاشمmiddot;middot;middot;''middot; ويقال إنه كان ''يرقب الشمس، فإذا زالت استقبل الكعبة فصلى ركعة بسجدتين، ثم يقول: هذه قبلة إبراهيم وإسماعيل، لا أعبد حجرا ولا أصلي له ولا آكل ما ذبح له ولا أستقسم الأزلام وإنما أصلي لهذا البيت حتى أموت''middot; وروى البخاري وغيره أن النبي (ص) التقى به قبل ابتداء الدعوة وأنه سئل عنه أثناء الدعوة، فقال عنه: ''يبعث يوم القيامة أمة وحده''middot;