الأربعاء:18. 01. 2006

فيصل جلول


يمكن لسلفادور الليندي أن ينام قرير العين في تشيلي. فقد اختار التشيليون للمرة الأولى في تاريخهم ميشيل باشليه رئيسة للجمهورية في مواجهة ملياردير متأمرك تدعمه الكنيسة الكاثوليكية واليمين المحافظ الذي وفر تغطية واسعة لحكم الديكتاتور الدموي السابق أغوستينو بينوشيه. ويمكن له أن يشعر بالفخر لأن رئيسة البلاد هي ابنة احد أنصاره وهو ألبرتو باشليه الجنرال في الطيران الحربي وقد مات تحت التعذيب بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالحكم الاشتراكي المنتخب ديمقراطيا في العام 1973 وبترتيب من وكالة الاستخبارات الأمريكية. أضف إلى ذلك أن باشليه نفسها قد نجت ووالدتها من الموت تحت التعذيب وتمكنت من الهرب إلى استراليا ومن ثم إلى ألمانيا الشرقية حيث تخصصت في الطب وعادت إلى بلادها في العام 1990 بعد انهيار الديكتاتورية وسيطرة ائتلاف اليسار على الحكم عبر الانتخابات لتصبح وزيرة، واليوم رئيسة للجمهورية.

لم تبخل الكنيسة الكاثوليكية بأموالها وصلواتها من أجل إسقاط باشليه التي تنتمي في أصولها إلى عائلة فرنسية هاجرت إلى تشيلي في القرن التاسع عشر.فالرئيسة المنتخبة تجمع في شخصيتها كل المحرمات التي يندد بها الرهبان الكاثوليك في هذا البلد المحافظ. فهي امرأة ومطلقة ترعى وحيدة أطفالها الثلاثة، واشتراكية وتنتمي لأسرة ماسونية وتناضل من أجل فقراء لطالما حاولت الكنيسة إقناعهم بلا جدوى المساواة، وأن سعادتهم الحقيقية تكمن في العالم الآخر وليس على هذه الأرض التي وهبت لرجال المال والأعمال الكاثوليك الكبار الذين لم تتخلف الكنيسة يوما عن نجدتهم، ولو كلفها ذلك تغطية الجرائم الشنيعة التي ارتكبت خلال عهد العسكر.

مع التذكير بأن الكنيسة التشيلية كانت جزءا من تيار كنسي شامل في أمريكا اللاتينية خاض الحرب الباردة إلى جانب الطغاة، الأمر الذي أدى إلى تمرد تيار مسيحي معارض بزعامة رهبان صغار ذهب بعضهم إلى حد الانخراط في حروب العصابات ضد الأنظمة العسكرية والديكتاتوريات التي كانت تحظى بدعم واشنطن وتأييدها.

وإذا كان صحيحاً أن انتصار باشليه يؤكد تمسك الناخبين بالخيار الاشتراكي المعتمد في البلاد منذ عقد ونصف العقد، وبالتالي ليس فاتحة لحقبة تاريخية جديدة كما هي الحال مع انتخاب ايفو موراليس في بوليفيا، فالصحيح أيضا أن هذا الانتصار يتم في ظروف داخلية لم يسبق أن توفرت للائتلاف اليساري الحاكم من قبل. ذلك بأن اليسار يسيطر على مجلسي الشيوخ والنواب وبالتالي بات من السهل عليه اتخاذ إجراءات جذرية لتضييق الفوارق بين الثراء الفاحش والفقر المدقع وإشراك النساء على نطاق واسع في الحكم للمرة الأولى في تاريخ البلاد، حيث من المنتظر أن تشكل الرئيسة الجديدة حكومة تشغل المرأة فيها نصف المقاعد الوزارية.

مختصر القول ان انتصار باشليه من شأنه أن ينقل تشيلي من يسار الوسط إلى اشتراكية على الطريقة الاسبانية، الأمر الذي يفسر ابتهاج رئيس الوزراء الاسباني خوسيه لويس ثاباتيرو بهذا التطور أكثر من غيره من القادة الأوروبيين، خصوصا أنه يقيم علاقات وثيقة مع الحزب الاشتراكي التشيلي الذي تناضل الرئيسة المنتخبة في صفوفه منذ صباها.

ولعل الفارق بين معنى الانتصار الذي طرأ هذا الشهر في سانتياغو والانتصار الذي شهدته لاباز في ديسمبر/ كانون الأول الماضي يكمن في البعد القاري، ذلك بأن موراليس لم يتردد في الرهان على تيار متصاعد في أمريكا اللاتينية يعبر بوضوح عن مقاومته للعولمة ويعطي أولوية حاسمة لمصالح القارة ويدعو للتنسيق المكثف بين الدول اللاتينية الممانعة في الأرجنتين وبوليفيا والبرازيل وفنزويلا وتشيلي والاورغواي، في حين تبدو ميشيل باشليه أقل حماساً لاتينياً من نظيرها البوليفي وان كانت تعتبر أن على بلادها أن تقيم علاقات مع الجميع، بمن فيهم نظام تشافيز وموراليس وأنها لن تعيد الحرب الباردة إلى القارة بين دول ترضى عنها واشنطن وأخرى تعزلها من أجل تطويعها.

ما يجدر ذكره في هذا الصدد أن تشيلي دفعت ثمنا باهظا لصراعات الحرب الباردة، وأن الائتلاف اليساري الحاكم يسعى منذ العام 1990 إلى تثبيت المصالحة الوطنية في البلاد والى طمأنة المستثمرين الأجانب الذين يلعبون دوراً حاسماً في النمو الاقتصادي الذي جعل من هذا البلد الأكثر تقدما في أمريكا اللاتينية.

في تشيلي وبوليفيا والدول اللاتينية المتمردة على اليانكي يبدو أن صدى الماضي القريب يتردد مدوياً في بلدان لم تكف عن الممانعة على الرغم من اختلافها في اعتماد الوسائل الملائمة. فقد فاز سلفادور الليندي برئاسة الجمهورية في أول سبعينات القرن الماضي في وقت كانت فيه أدغال بوليفيا وأمريكا اللاتينية ومدنها تموج بحروب العصابات والثوار وسط صراع صارخ بين تيارين يساريين لاتينيين، واحد أقلوي يقول بإمكانية الوصول إلى السلطة عبر الانتخابات والعمل السلمي الديمقراطي، وآخر أكثري يسير على النهج الكوبي ويرى أن الكفاح المسلح هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى السلطة وضمان السيطرة عليها في مواجهة الطغيان الأمريكي والأنظمة العسكرية أو الفاشية التابعة لواشنطن.

والثابت أن الليندي نفسه اكتشف مبكرا أن وصوله إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع لا يضمن له التصرف بالسلطة كما يشتهي حزبه بدليل أن واشنطن وجنرالات الجيش التشيلي حاولوا إسقاطه منذ الشهور الأولى لتسلمه الحكم عبر إضرابات مفتعلة وأعمال شغب منظمة واغتيالات مبرمجة فحاول التقرب من كوبا وحماية نظامه بالمزيد من الاقتراب من الاتحاد السوفييتي، الأمر الذي أدى إلى الإغارة على قصره واغتياله بالقصف الجوي وبعده لن يدافع أحد عن الخيار السلمي في الوصول إلى السلطة، وسيكون هو نفسه مثالا على عقم هذا الخيار، بيد أن انهيار الحرب الباردة سيعيد خلط الأوراق من جديد وسيكشف عن فرص ديمقراطية جدية في العمل السياسي في هذه القارة، خصوصا بعد إخفاق حروب العصابات في تكرار التجربة الكوبية وتحولها في أحيان كثيرة إلى حروب أهلية.

يجتمع في أمريكا اللاتينية اليوم، إرث تشي غيفارا وسلفادور الليندي في ميشيل باشليه وايفو موراليس وهوغو تشافيز وكرشنر ولولا داسيلفا وآخرين يؤكد لمن يرغب أن إرادة الشعوب في التحرر والعدالة يمكن التعبير عنها بوضوح ليس فقط بواسطة السلاح وإنما أيضا من خلال صناديق الاقتراع إذا ما كانت محروسة جيدا ونتائجها قابلة للتطبيق.