الأربعاء:18. 01. 2006
محمد الرميحي
حفظنا عن ظهر قلب في السابق، بعدما توالت العٌصب العسكرية على اغتصاب السلطة وraquo;الثروةraquo; في الكثير من البلدان العربية، وبعد فترة قصيرة من تجربة ما يعرف اليوم بالليبرالية الديموقراطية العربية، حفظنا مقولة laquo;الديمقراطيون العرب يقتلون الديموقراطية، والعسكريون يوقعون شهادة الوفاةraquo;. كان ذلك منذ الخمسينات حتى التسعينات من القرن الماضي. حتى الأحزاب الأحادية العربية، التي ضمّت بعض المدنيين، ارتكزت على العسكريين في طريق القفز على السلطة، وما لبث المدنيون فيها، وإن لم يحصلوا على أي تدريب عسكري، أن لبسوا laquo;الكاكيraquo; (أو الخاكي في بعض اللهجات العربية) تيمناً بالعسكر.
دور العسكر العرب في السياسة كان متوقعاً في فترة الحرب الباردة، اذ كان العالم ينقسم إلى قسمين، رأسمالي واشتراكي، ومع التطاحن بين القوتين، والعرب في وسط جغرافي وتحت أرضهم تكمن الطاقة المحركة (النفط)، لم يكن بمقدور أية قوة أن تستغني عن اطموح الاستيلاء على أرضهم وثروتهم، ولا كان بمقدورهم هم ان ينفكوا من ذلك الأسر.
لم يعد سراً أن معظم الانقلابات العسكرية العربية كان بموافقة أو حتى بتصميم أو على الأقل بسماح القوة المنتمية للمعسكر (الرأسمالي). بين أيدينا اليوم وثائق دامغة تقول لنا ذلك، من دمشق إلى بغداد إلى القاهرة إلى طرابلس الغرب إلى الخرطوم إلى صنعاء. المشكلة أن بعض العسكر وجد بعد حين أن laquo;التنظيم الاشتراكي للمجتمعraquo; القائم على القمع والمنع، يسهل عليهم القبض على laquo;السلطة والثروةraquo;. كل ذلك تم بالطبع تحت شعارات رنانة اكتسحت معظم عقول العرب من الخليج إلى المحيط.
انتهى المطاف بفشل كامل للمشروع القادم من الثكنات، كان ارتكازه على عدد من الشعارات، لم يستطع أن يحققها، لا في laquo;التحريرraquo; ولا في laquo;التنميةraquo;. ورغم أن العسكر قد ورًثوا عسكراً في الحكم أو شبه عسكر، إلا أن الاعتماد كان على laquo;حزبraquo; واحد انضوت فيه سيطرة الدولة وجشع الأفراد.
تغيرت الأحوال في الخمس عشر سنة الأخيرة، تدريجياً لكن بعمق، ودارت الدائرة، وتبين ان من شبه المستحيل لنظام استبدادي الحفاظ على السلطة في مجتمع حديث يتفاعل مع المنظومة الاتصالية الحديثة بالغة السرعة كثيفة التأثير، كما تبين أن الحكومات المتحررة من الكوابح الزجرية القانونية على سلطتها المطلقة تصبح دائماً فاسدة، ويسكت المفسدون عن المفسدين حتى تظهر laquo;السرقةraquo; في خطيئة ارتكبت هنا أو مجموعة أخطاء تمت هناك كهزيمة أو جور على جار. كما ظهر للجميع أن أنظمة الحزب الواحد الأوحد، لا تملك حوافز أصلية لإعادة صياغة للنظام والحكم الذي يحقق مصالح الأكثرية أو يتواءم مع المتغيرات، فتحولت الأكثرية من مواطنين إلى laquo;مواليraquo;.
منذ عشرية خلت، وبسبب تفاقم الفشل من جهة، وعدم القدرة على تحقيق التنمية من جهة أخرى وتغير العالم المحيط، عادت النغمة العربية الجديدة الى العزف مع المعزوفة الدولية (الاقتصاد الحر، الحريات الديموقراطية، حقوق الإنسان) والكثير من الأفكار الحديثة، مما أصبح خبزاً ومرقاً للصحافة العربية السيارة اليوم والإعلام الفضائي، حتى عاد بعض أقلام العبيد السابقين للدكتاتورية يروج لما لم تفه به بكلمة أيام laquo;لا صوت يعلو على صوت المعركةraquo;!
لكن المعضلة تكمن في أن الأماني الجديدة تلك لم تجد لها عربة اجتماعية تحملها إلى مقصدها الأخير ومحطتها النهائية، فلم تهيئ الفرص لظهور ولا لنمو مجتمع مدني حقيقي وحديث في عالمنا العربي، جراء القمع المتواصل للنخب المستنيرة، التي أما أقصيت أو صمتت أو هاجرت أو ارتضى بعضها التمرغ بـ laquo;تراب الميريraquo;. هنا جاءت الفكرة الجديدة وهي العودة من جديد الى العسكر، لكن بشروط جديدة، فبدلاً من توقيع شهادة الوفاة للديموقراطية طلب منهم هذه المرة توقيع شهادات الميلاد.
تجارب العسكر في الاتجاه المضاد مشهودة أيضاً، فهناك تجربة عسكر تركيا، الذين تدخلوا في شؤون الدولة حين أصبحت سفينة الدولة في رأيهم يحدوها الخطر، فهم انتهوا إلى أن يكونوا laquo;بيضة القبانraquo; للحفاظ على الدستور وتطبيقه، أما المفاجأة - وهي ليست مفاجأة - فجاءت من عسكر موريتانيا، الذين بدأوا اليوم بتحضير شهادات الميلاد إلى ديموقراطية معقولة في تلك البلاد، عن طريق تنظيم هياكل سياسية، والسماح لكل القوى بأن تتنافس في ساحة السياسة، بضمانات، من بينها عدم تدخل laquo;الجونتا) العسكرية في صيرورة المسيرة القادمة، والامتناع حتى عن ترشيح أنفسهم.
هذه الروح العسكرية/ الديموقراطية، على ما في المفهوم من تناقض، نجد لها أصولاً في العسكر المصري، في ما عرف اليوم بأزمة laquo;مارس 1954raquo; التي طالب فيها بعض العسكر (من مجلس قيادة الثورة المصرية) بالعودة إلى الديموقراطية وحكم الأحزاب، إلا أن شهوة البعض (للسلطة والثروة) أفسدت ذلك المسعى، ليس من دون شعارات ضخمة، وعواطف نبيلة من بسطاء القوم.
حصل العسكر العرب على امتيازات ضخمة في مجتمعاتهم من بينها أنهم اُعدوا للحرب، لكنهم لم يحاربوا، باستثناء قلة قليلة منهم، معظم العسكر العرب من الضباط في السنين الخمسين الأخيرة ماتوا في فراشهم، بعضهم أصبح من أهل الجاه والمال والسلطة، كما أن الامتيازات التي حصلوا عليها في حياتهم فاقت كل امتياز، مرتبات كبيرة في مجتمعات فقيرة، وسلطة غير محدودة على رؤوس الفقراء، واستهتار كامل بكل من العلم والقانون.
أصبح الضباط العرب في الكثير من دولهم laquo;مبشرين بالحصانةraquo; حتى أدمنت وسائل الإعلام (شرائط السينما والتلفزيون بعدها والصحف قبل هذا وذلك) في تقديم الضابط على أنه إيقونة المجتمع وهوى المراهقات.
علينا أن نتذكر العسكر على الجانب الآخر من الصورة، في إسرائيل، حيث تداخل العمل السياسي بالعسكري، فأصبح عدد من قادة إسرائيل ضباطاً سابقين في الجيش، مع فارق أنهم التحقوا بالأحزاب المدنية قبل ذلك، وانتموا إلى المجتمع المدني. المقارنة مجحفة بالطبع، اذ توفر مجتمع مدني وقانوني لهم لم يتوفر لنظرائهم العرب، بسبب زملائهم العرب أيضاً من أهل العسكر.
بعد كل الأزمات السابقة التي مرت بنا ولا يزال بعضها عالقاً في الحلق، أمام بعض العرب تجربتان لا غير في الوصول إلى الحرية المبتغاة، أما تحرك الشارع في انتفاضته التي رأينا ألوانها المختلفة في الثلاث سنوات الأخيرة، منها الزهري والأرجواني أو البرتقالي إلى آخره من الألوان، وهو أمر لا يبدو أن الأرض مهيأة له بعد، أو أن ينخرط العسكر العرب من جديد في التغيير إلى الأفضل، هذه المرة من اجل تغيير مشروط، وهو مسايرة هذا العالم الكبير المتنوع باحترام الديموقراطية والتعددية وإعلاء حقوق الإنسان.
يكتشف العاملون مع العسكر الذين امتطوا السياسة، في نهاية الأمر، أن الطريق مسدود، والمثال هو السيد خدام، وان تكن إفاقة متأخرة إلا أنها لها دلالة، إفاقة الأستاذ عبد الحليم خدام الأخيرة المحمودة، الذي وجد نفسه أمام خيارين، أما الرضوخ للعسكر أو الموافقة التامة لأهل laquo;الميريraquo; التابعين، فلا مكان لرأي آخر غير ذلك ولو كان اختلافه طفيفاً. وتجربة السودان ذات الدورة الكاملة في الثلاثة عقود الأخيرة، تنبئ أيضاً عن المسيرة ذات الأفق المسدود، وفي الاحتفال الأخير بالعيد الخمسين لاستقلال السودان، أصبح التوجه لما ليس منه بد، المشاركة في السلطة والثروة، محاربة الفساد، حقوق الإنسان، الاعتراف بالتعددية والأحزاب، إلى آخر المقولات العالمية المستحبة. يقوم بتنفيذها عسكريين يبقى سؤال هل تحقق تلك الخطوات أهدافها أم لا؟ ذلك أمر آخر لا يستطيع أحد في هذا الوقت المبكر أن ينبأ به، إلا أن الإشارة هي لتأكيد التوجه الجديد، مع تأكيد عقم التوجه السابق.
السؤال الذي يبدو انه لا يسبق زمانه هو هل يعود العسكر العرب، كونهم القوة الاجتماعية المنظمة الوحيدة والمنتمية إلى وسط اجتماعي مقهور، في فضاءات العرب الحالية، إلى لعب دور جديد يُكفر عن دور سابقيهم باحتضان الديموقراطية ووضع مجتمعاتهم على سكة التطور بعد طول اغتراب؟ ذلك سؤال مطروح لدور جديد.
كاتب كويتي.
التعليقات