د. علي الشعيبي
المثقف، مع التجاوز عن تفسير المصطلح وتداعياته، يحاول دائماً أن يوصل فكرته بشفافية وحب وكأنه يغرد، أو كما قال المعري، يسجع كالحمامة، يحمل أفكاره ويتبناها، ويحاول إيصالها سلمياًmiddot; أما السلطات السياسية في بعض بلدان العالم الثالث، والتي تدعي الديمقراطية، ومن موقع القوة، فإنها ترد على سجع الحمامة بزئير الأسد في أغلب الأحيان، وفي بعض الأحيان، تحاول أن تحول سجيع الحمائم إلى أنشودة يتغنى بها الأطفال في طابور الصباحmiddot; إنها علاقة مشدودة متناقضة متداخلة، على طرفيها يقف المثقف حاملاً رؤيته للمستقبل، وفي الطرف الثاني تقف السلطة متشبثة بمواقفها وآرائهاmiddot;
أية علاقة صحيحة وفق تبادل المصالح يمكن أن تمنح المثقف القدرة على التغيير وفق نهج الإصلاح ووفق رؤيته للمستقبلmiddot; عندما يكون المثقف هو الفكر، وهو طليعة المجتمع والقادر على إثارة الأسئلة الصعبة في الزمن الصعب، وتبيان الحقائق، ويكون في طليعة رمح التغيير، وسيف اجتثاث الفساد، فإنه بهذا التصنيف المتواضع، دون الإخلال بأهمية الدور، يكون عرضة -في كثير من الأحيان- لبطش السلطة، ويكون مصيره، في بعض بلدان العالم الثالث، تكسير الأصابع والقلم أو جز اللسان وخنق الميكروفون أو تهشيم عظام الصدر لإخراج القلب الذي يمكن أن ينبض بالطهر والعفةmiddot; هذا مظهر من مظاهر استبداد السلطة، وقتلها للمثقف الذي يرفض الانصياع لهاmiddot;
المظهر الثاني لثنائية العلاقة بين المثقف والسلطة، يكمن في قدرة المثقف على التأرجح طويلاً فوق الحبال المشدودة، يتأرجح عالياً بينما هو ينحدر متحولاً لانتهازي حقيقي وقانص للفرص، في موقف ميكيافيلي، لا ينتمي للموقف البطولي، أو حتى لفروسية المثقف الطليعيmiddot;
عندما ينحدر المثقف إلى مستوى التقاط الفتات من على الموائد في علاقة الاحتواء التي تمارسها السلطات السياسية، عندها يكبر الخطر الكامن في توجيه الرأي العام، ويكون خدش صورة ومصداقية هذا المثقف محل سؤال عريض وممتد في الذاكرة الجمعية للناس، الذين كانوا يعتقدون أن المثقف هو صوتهم وضميرهم الواعي، القادر على نقل نبضهم، من خلال قصيدة أو لحن أو لوحة أو مقالة أو كتابmiddot;
سقوط المثقف وتحوله إلى بوق للسلطة يثير في النفس كوامن وصوراً متعددة لمهارات التلون والتماهي مع واقع البطش أو واقع الاحتواء، الذي نجحت فيه الكثير من السلطات، لغرض إقصاء المثقف عن مسرح فعل التغيير، واجتزاء مقاطع كثير من الذاكرة الجمعية لحركة المثقف لقيادة الجموع، لإحداث حراك مجتمعي، حماية لكل مكتسب يصب في خدمة الإنسانmiddot;
إذا كانت الثقافة ومعولها المثقف أعلى أشكال الفعل الإنساني النابض بالقدرة على تقديم الخير للإنسان، فإن انحدار المثقف إلى درك التحول إلى بوق أو آلة في يد السلطة، يعتبر كارثة، وخاصة عندما يحاول المثقف، في بعض بلدان العالم الثالث، بقدراته على التواصل مع نبض الشارع، تقديم تبريرات واهية لكل ممارسات السلطة، حتى وإنْ كانت قمعية أو منتهكة لحقوق وحرية الإنسانmiddot;
في التصنيف يقع المثقف الانتهازي في أدنى مرتبة، عندها يفقد المثقف قدرات كثيرة تمتاز بها الثقافة الحقة، ومنها دلال الحوار و الإقناع في مواجهة دلال القوة والنفوذ، الذي تتمتع به السلطات السياسية في كل زمان ومكانmiddot; المثقف الحقيقي هو القادر على إحداث حراك اجتماعي وإقامة علاقة تضامنية مع السلطات السياسية، عندما يكون الهم هو الوطن والإنسانmiddot; هذا المثقف الواعي هو القادر على تحويل السياسي إلى مثقف، دون الانزلاق كثيرا في شبهة النفاق والتملقmiddot;
علاقة التبرير والتملق تسقط المثقف من حسابات الفعل المنجز للبعد الإنساني لقدرات الكلمة والرأي الحر لإنجاز المشروع الخاص بالإنسان وحقوقه، وخاصة في الدول التي تفتقد أدنى درجات الشفافية وغياب المؤسسات المدافعة عن الحقوق وصيانتهاmiddot;
المثقف الحقيقي هو الذي يعيش هموم مجتمعه، ويتحسس نبض الشارع، ولا يلقي بالاً لحاجاته الخاصة والأنانية والآنية، ويستطيع أن يقبض على الجمر، ولا يتطلع لأبراج زجاجية شاهقة، ولا يحلم بسيارة فارهةmiddot;
المثقف الحقيقي، هو الذي يرى بواسطة عدسة ضميره الكاشفة مقدار معاناة امرأة فقيرة، وهي تقف في طابور المستشفى، لاستلام دواء الضغط والسكر وخفقان القلب وتصلب الركب، بينما يدلف هو من الباب الخلفي للصيدلية متسلحاً بعلاقاتهmiddot;
لا يمكن، وتحت أي مبرر، إقامة علاقة بريئة بين المثقف والسلطة السياسية بناء على تغاير المنهج، وخاصة في بنية وتكوين السلطات الشمولية في بعض بلدان العالم الثالث، فالسلطــة الشموليـــة القمعية، تقاتـل -وبشراسة- لتحويل الفعل الثقافي إلى منجز إعلامي ومشهد خبري يروج لها، وحتى وإنْ كان هذا المنجز يتعلق بصيرورة الفعل الثقافيmiddot; أما المثقف، فإنه يسبح هائماً في فضاءات من الحرية وعلى حد قول تشيخوف ''لا تتجسد أصالة الكاتب في أسلوبه فحسب، وإنما في طريقة تفكيره وقناعاته''middot; هذه القناعات مبنية على وعي حقيقي بالمعاناة الإنسانية في بعدها القيمي، وفي قدرة الإنسان على تحديهاmiddot;
مهمة المثقف النقدي شاقة، وربما تكون مستحيلة في ظل ظروف صعبة تمر بها الثقافة رغم كل التطورات التقنية القادرة على تجسير العلاقات وخلق مسارات للتواصل الفعال بين مختلف الثقافات والإبداعات الإنسانية في مختلف دول العالمmiddot;
المثقف النقدي شاهد عيان على مستويات الحراك الاجتماعي ومجمل التغيرات التي تعصف بالمنطقة، فإما أن يكون قابضاً على فكرته، وإما أن يستسلم للأمر الواقع، ويتنازل عن الدور، وفي الحالة الأخيرة، سيخسر المعركة مع الذات والضمير، ويتحول إلى بوق واسعة، يردد هتافات الغوغاءmiddot;
على المثقف النقدي، المؤسَّس فكرياً، أن يكون قادراً على إشاعة القيم الديمقراطية المعززة لكرامة الإنسان وحقوقه بعيداً عن ضيق الاختلاف حول فكرة التعصب أو التطرف الديني وتبرير القتل لمجرد الاختلاف، وعليه أن يسعى بكل ما أوتي من قوة وقدرة على تأصيل فكرة الحوار ومبدأ الرأي والرأي الآخر، ومروجاً للعقلانية، كاشفاً مواطن الفساد منحازاً دائماً لصالح المعدمين والمهمشينmiddot;
جدلية العلاقــة بين المثقـــف والسلطـــة تستوجب موقفــــاً شجاعـــــاً للمثقــــفmiddot; وهــــل يتعظ المثقــــف العربـــي من مغبـــة الوقـــوع فـــي حبائل علاقة يبدو أنها حـــب لا يدوم، وصفاء تعكــــر صفـــوه سحابات تتكاثف كالغيوم، ربما من دون مبرر أو تكون انتهاء للدور، بعــــد أن يكــــون المثقـــف قـــد خان نفســــه قبل أن يخـــون الآخرين، ويكون سقوطه مريعاً مدوياًmiddot;
التعليقات