كتب:السفير عبدالله بشارة


اكثر ما كان يشدني في سمو الامير الراحل الشيخ جابر الاحمد تواضعه الجم وتقشفه وزهده، فقد جاء الى الحياة حاملا الصفات النادرة، واخذ من الحياة بحكم الخبرة والتجارب، عادات وصفات تبناها لنفسه كنهج في سلوكه الشخصي وفي اسلوب قيادته للدولة.
لم تكن سفراته الكثيرة لحضور المؤتمرات العربية والدولية دائما سهلة في السكن والاقامة والانتقال، ففي كثير من الاحيان يجلس في جناح متواضع وفي غرفة عادية، لا يتذمر ولا يشكو ولا يحمل المضيف فوق طاقته، يتعامل مع الوضع بكل تقبل مقدرا ظروف الذين استضافوه، ومدركا بأن رجال البروتوكول اظهروا كل الحرص من اجل توفير راحته، لكن الترتيبات جاءت بقدر الامكانات، ويمارس برامجه المعتادة في اسفاره بلا تغيير، يستقبل اعضاء الوفود ويتحاور مع رؤساء التحرير ويتبادل التعليق مع الوزراء، ويستعرض الاوضاع مع زواره ويذهب الى المطار في اول فرصة للمغادرة، لكي لا يثقل على أي طرف.
اتذكر في قمة الرياض الاولى في نوفمبر 1981 سألني عن موعد الجلسة الختامية حيث كان له التزام يفرض عليه العودة قبل اذان المغرب، ولحسن الحظ فقد كان المؤتمر قصيرا وانتهت مداولاته بعد العصر حتى تمكن من العودة الى الكويت، وفق توقعاته.
واصر في ذلك المؤتمر على تخفيف اجراءات الوداع تقديرا للظروف الصحية للملك خالد، وانسجاما مع رغبته في البساطة وتجاوز التعقيدات لأنه لا يحب القيود ولا يرتاح لصرامة البروتوكول.
خلال فترة عملي كأمين عام لمجلس التعاون، وقفت على بعض الخصال السامية التي يحملها معه، كان دائم الحرص على تفهم ظروف الآخرين في مجلس التعاون، يطلب مني مداراة قدرة الدول الاعضاء على تنفيذ القرارات وعدم استعجالها مع الاخذ في الاعتبار امكانياتها، كان يردد وبشكل مستمر، بأن مجلس التعاون هو قناعات جماعية يفيد الجميع، فلا داعي للاحراج أو الازعاج.
كنت ألجأ إليه عند بروز الحدة في مسيرة مجلس التعاون، اذهب الى مكتبه مهموما واشرح له مسببات الحدة، واخرج منه مرتاحا ازال عني ثقل المسؤولية لأنه سيتولى الامر مباشرة وبالتشاور مع اشقائه قادة الدول، لا تفارقه الابتسامة وهو يستمع لي متحدثا اليه في ضيق، لأنه يعرف الحلم وسعة الصدر من صفات القادة النادرين، سألني مرة عن العقبات التي اخرت التنفيذ الكامل للاتفاقية الاقتصادية، لأنه يرى الاقتصاد السبيل الامثل للتكامل وخلق الارتياح بين الدول، شرحت له الوضع فكان التعليق laquo;علينا التدرج في العمل بدون تضييقraquo;، مع ايمانه بترك الجوانب الامنية والدفاعية لمراحل لاحقة لأنها شائكة وفيها اجتهادات متباينة.
كان مجلس التعاون موقع سكنه ولقاءات القمة بيئته اللائقة، يجد فيها النسيم الملائم له، ويرتاح من مناخها، ويتسامر مع القادة التاريخيين الذين تجاوبوا مع مبادرته، وشكلوا فيما بينهم حلقات الصفوة، كنت استمع الى التسامر المرتفع واتابع مشاركات القادة فيها فالاجتماع حلقة خاصة بهم فيها يجدون الارتياح وفي مناخها يتداولون في الشأن الخليجي.
وكان سمو الشيخ جابر رشيقا في التسامر، سمعته في احدى الجلسات الخاصة ينشد الشعر الشعبي وعندما انتهى من القصيدة سأله الراحل الشيخ زايد اذا كان هو صاحب القصيدة، فيرد بالايجاب.
لم يكن الشيخ جابر من عشاق الاطالة والثرثرة الايديولوجية الجامدة ولم يكن راغبا في الاستماع الى مداخلات عميقة في مشاجرات ومشاحنات بين الدول. فلا مزاجه ولا معدنه ولا مكانته في وضع يقبل النزول الى المشاغبات.
خلال القمة الاسلامية في الكويت التي ترأسها بجدارة، طغت شخصيته على احتمالات الانفجار خاصة بين سورية وبين مصر، وبين المنظمة مع الاطراف الاخرى، انتهت القمة بلا خناقات لأن الامير الرئيس لن يرضى بتحويل القاعة الى منصة ملاكمة، ولأن وجوده طغى على نزعات التربص والتطاول.
في القمة الاسلامية في الدار البيضاء في 1983، وجه سمو الشيخ جابر الدعوة الى قاد الدول الاسلامية لعقد القمة المقبلة في الكويت في عام 1986، كنت جالسا بجانب الدكتور حسن كامل المستشار الخاص لأمير قطر، عندما بدأ سمو الامير يلقي خطاب الدعوة باسم الكويت، فإذا بالدكتور حسن كامل يشدني من اليد ويقول لي (انا احب اسمع الشيخ جابر عندما يتحدث لأنه يقول الشيء من القلب)، وفعلا فالخطابات التي يلقيها تحمل المفردات البليغة وتتميز بالصدق وهي ترجمة حقيقية لنفسية وفكر الشيخ جابر.
وتجتمع هذه الصفات العالية مع التواضع والتقشف فتخرج اميرا نادرا وفريدا، نحن نعرف مسكنه في دسمان في غرفة عادية يجد فيها سعادته، وبإمكانه ان يشيد القصور، ويمتلك اليخوت، ويذهب في اجازات الارتياح والاسترخاء، لكن سعادته في بساطته وفي اصالته، فأجواء الرفاهية ليست له، والاسترخاء ليس من طبعه، وضياع الوقت في النزهات امر بعيد عنه.
وفوق ذلك كله يملك الشيخ جابر عفة اللسان ونظافة البيان، لا يتحدث عن احد بنقد ولا يعرف لسانه المفردات السوقية، حتى في الظروف الصعبة التي عاشها في مدينة الطائف لا يتحدث عن الذين اعتدوا عليه ولا يأتي بذكرهم فهو من سكان الابراج العالية الذين يستمتعون بالهواء النقي، والمحصنين من عبثيات الدنيا وتلوث الحياة.
لم اسمع مفردات الحقد والتربص، كان همه الاكبر اهل الكويت تحت الاحتلال، وهذه صفة يملكها النادرون الذين وهبهم الخالق سبحانه وتعالى مؤهلات التفوق، وقدرته على الانضباط في اللسان لا يدانيها الا قدرته على قلة الطعام، فالكلام عنده ضرورة، والطعام بالنسبة له حاجة فقط.
كنت اشاده على مائدة قصر دسمان في رمضان الكريم يأخذ القليل من الخضار، لا يسرف بشيء ولا تهزه لذة الموجود على اطباق مختلفة.
هذا الانضباط المحكم في السلوكيات، في المأكولات وفي المفردات مع صفات الندرة الاخرى هي المضمون النفسي والتكويني للشيخ جابر، وهي المادة الشحيحة التي يملكها القليلون ويتمناها الكثيرون.
كان الشيخ جابر - في متابعته لمسيرة المجلس - يتخوف من استقطاب الدول الكبرى للمنطقة، وكان يتوخى الحذر وينصح بالابتعاد عن التداخل مع الكبار الذين لهم الاجندة الخاصة بهم، فقد اخذ الكويت في دبلوماسيتها بعيدا عن التحالفات وغاص عميقا في الحضن العربي، الذي رافقه حتى النهاية على الرغم من دروس الغزو المريرة.
ومع ذلك فإنه ادرك بحكم واقعية الممارسة ضرورة التعاون مع الائتلاف الدولي من اجل تحرير الكويت.
وعندما ذهب الى منصة الامم المتحدة في ذلك الخطاب التاريخي، وقفت الوفود تصفيقا ودعما ومساندة في منظر تاريخي غير مسبوق، لم يخذله المجتمع الدولي عندما استنجد به، بل استجاب له بعد الاطلاع على سجله الانساني والاخلاقي والسياسي.
كلنا نعتز به، وكلنا نحبه، وكلنا نعيش في احضان سجل الانجاز الذي بدأه في شبابه ورافقه حتى النهاية.
والبقاء للخالق وحده،،،