الأحد:22. 01. 2006

د. عبدالله المدني


يقوم العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبد العزيز هذا الشهر بجولة آسيوية تقوده إلى الصين والهند وماليزيا وباكستان، هي الأولى من نوعها منذ تسلمه مقاليد الحكمmiddot; وما يهمنا هنا هو زيارته إلى الهند بالتوافق مع احتفالاتها السنوية بعيدها الوطنيmiddot;
هذا حدث تاريخي بكل المقاييس، ليس فقط بسبب طبيعة الزيارة ومستواها وتوقيتها ودلالاتها، وإنما أيضا بسبب ما للدولتين من مكانة ونفوذ وثقل ضمن محيطهما الإقليمي على الأقلmiddot;
فمن ناحية طبيعتها ومستواها، فهي الزيارة الأولى لزعيم سعودي إلى هذا البلد الذي تربطه بمنطقة الخليج روابط ضاربة في أعماق التاريخmiddot; ذلك أنه منذ الزيارة الرسمية اليتيمة للملك سعود بن عبدالعزيز إلى نيودلهي في ديسمبر عام 1955 لم يزر الهند أي من خلفائه، بل لم يزرها أي مسؤول سعودي كبير باستثناء وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل في عام middot;1981 وقد انطلق الكثيرون من هذه الحقيقة للقول بأن علاقات البلدين، لئن اتصفت منذ تأسيس الروابط الدبلوماسية الكاملة بينهما في عام 1954 بالهدوء والتواصل، فإنها تحمل في طياتها الكثير من الهواجس والشكوك النابعة من اختلافات تحالفاتهما الإقليمية والدولية على نحو ما سنفصله لاحقاmiddot; ومن ناحية توقيت الزيارة، فإنها تأتي في وقت يحفل بالكثير بالمستجدات المحلية والإقليمية والدولية من تلك التي تفرض إعادة صياغة الدول لعلاقاتها الاستراتيجية مع الآخر وفق مفاهيم وأسس جديدة للشراكةmiddot; بل إنها تأتي في ظل ما يبدو أنه نهج سعودي وخليجي جديد للانفتاح على قوى آسيا الكبرى وفق سياسة ''التوجه شرقا'' التي طالما نادت بها النخب الخليجية منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي وسخرت لها الكثير من مؤتمراتها وندواتهاmiddot; كما أنها تأتي في ظل حالة من الطفرة الاقتصادية في المملكة وعموم أقطار مجلس التعاون الخليجي، ترافقها سياسات وخطط رسمية للمزيد من التنمية المدروسة والاستثمار بعيد المدى، لا سيما في مجالي التنمية البشرية والعلمية اللذين حققت الهند فيهما نجاحا مشهوداmiddot; ويقابل هذا اهتمام متزايد من قبل الهند وبقية الأطراف الآسيوية بإقليم الخليج وأمنه واستقراره ورخائه لاعتبارات كثيرة، لعل أهمها ضمان تدفق الطاقة التي تتزايد حاجة آسيا إليها يوما بعد يوم بسبب ما يدور في الأخيرة من حراك ونمو اقتصادي باعث على الدهشةmiddot; وأخيرا فإن الزيارة تأتي بعد عام ونصف تقريبا من الاتفاقية التاريخية التي وقعتها دول مجلس التعاون جماعيا مع الهند لتأسيس شراكة اقتصادية متعددة الأوجه والأغراض كمقدمة لإطلاق منطقة تجارة حرة بينيةmiddot; هذه الاتفاقية التي سبقها مؤتمر فريد في مومباي لوزراء الصناعة ورجال الأعمال ومسؤولي غرف الصناعة والتجارة من الجانبين، وأثمر عما سمي بـ''إعلان مومباي''middot; في هذا الإعلان اعترف الجانبان صراحة بأن روابطهما التاريخية العميقة وقربهما الجغرافي وتواصل شعوبهما منذ أقدم الأزمنة والطبيعة اللاتنافسية لاقتصادياتهما، لا يتناسب إطلاقا مع حجم ما هو قائم بينهما حاليا من تعاون، مما يتطلب المزيد من العمل المنهجي الجادmiddot;
أما من ناحية الدلالات، فإن الزيارة كما تبدو تأكيد على أن علاقات البلدين لم تعد تتحكم فيها أو تحدد معالمها ومداها سوى المصالح المشتركة، بمعنى أنها تجاوزت نهائيا آثار المراحل الصعبة السابقة، حينما كانت محكومة بالعاطفة والأيديولوجيا أو كانت الشكوك والهواجس السياسية تخيم عليها بسبب عوامل خارجية مرتبطة بأطراف ثالثة صديقة لأحد طرفيها ومعادية للطرف الآخر، وليس بسبب وجود قضايا خلافية مباشرة بين الجانبينmiddot; إن أجواء التفاؤل التي تحيط اليوم بزيارة الملك عبد الله بن عبد العزيز لديار العملاق الهندي، شبيهة بتلك التي سادت زيارة الملك سعود المطولة قبل نصف قرن بالتمام والكمال، وكأنما التاريخ يكرر نفسهmiddot; يومذاك انتعشت الآمال حول ما يمكن أن يضيفه التقاء وتعاون البلدين الكبيرين إلى قضايا الأمن والسلام والتنمية والتحرير في المنطقة، لتتعزز أكثر بعد صدور البيان المشترك عن المحادثات والذي تضمن إشادة كل طرف بمواقف الطرف الآخر وعزم البلدين على ''التعاون الثنائي في شتى المجالات وبأقوى الصور، بعثا لروابطهما التاريخية القديمة، وخدمة لمصالحهما ومصلحة السلام العالمي''middot; وكانت سعادة الهند أكبر بخطاب ارتجله الضيف السعودي في حفل عشاء وقال فيه ما نصه: ''أود أن أقول لأشقائي المسلمين أينما كانوا أني واثق من أن مصير مسلمي الهند في أيد أمينة''middot; إذ مثل هذا التصريح العلني لزعيم الدولة الراعية لأقدس مقدسات المسلمين، أفضل رد على الدعاية الباكستانية وقتها والتي كانت تتهم الهند باضطهاد مسلميها والتمييز ضدهمmiddot;
وهكذا توطدت العلاقات السياسية بين البلدين، وخاصة بعد زيارة الزعيم الهندي جواهر لال نهرو إلى الرياض في سبتمبر 1956 والاستقبال الرسمي والشعبي الحافل الذي أعد له كمحرر للهند وتلميذ نجيب للمهاتما غاندي وصديق للعرب وداعم لقضاياهم في فلسطين والسويسmiddot; غير أن كل هذا الانسجام السياسي انتكس لاحقا (وهو ما لا نتمى أن يكرره التاريخ) بسبب التطورات المتلاحقة في المنطقة العربية وانقسام العرب ايديولوجيا إلى معسكرين ووقوف الهند إلى جانب المعسكر المعادي للسعودية بقيادة مصر الناصرية بسبب ما كان بين نهرو وعبدالناصر من صداقة شخصية وما نجم عن ذلك من قيادتهما لحركة عدم الانحيازmiddot; ولم يكد هذا العامل المباعد بين البلدين يرحل بهزيمة مصر في حرب حزيران وانتهاء الحرب اليمنية وانتهاء قيادة الهند للسيدة أنديرا غاندي بسياساتها الواقعية والجديدة للتقارب مع بلدان الخليج تحت ضغط العوامل الاقتصادية، فضلا عن مبادرة الرياض لإشراك الهند في أول قمة إسلامية في الرباط عام 1969 (رغم معارضة باكستان ونجاحها لاحقا في إقصاء غريمتها الهندية)، حتى طرأت عوامل مفرقة جديدةmiddot; فإضافة إلى ضغوطات العلاقة المتأزمة بين نيودلهي وإسلام آباد والتي وقفت فيها الرياض إلى جانب الأخيرة انطلاقا من مبادىء التضامن الإسلامي) مثلما تجسد عمليا في حرب البنغال عام 1971 وقبلها في حرب عام 1964 حول كشمير، جاءت الشراكة الاستراتيجية بين نيودلهي وموسكو وتعاونهما الوثيق عسكريا لتخلق أجواء جديدة من الشكوك في الرياض التي كانت تتبنى سياسة محاربة الشيوعية والقطيعة مع سدنتها في الاتحاد السوفييتي، لا سيما وأن هذه الشراكة جاءت في وقت كثر فيه الحديث عن مخططات سوفييتية لمد النفوذ نحو مياه الخليج الدافئةmiddot; ثم جاء الغزو الروسي لأفغانستان وموقف نيودلهي المهادن له ولتبعاته، ليزيد من هذه الهواجسmiddot;
غير أنه في مختلف هذه الحقب وتطوراتها الدرامية ظلت القنوات الدبلوماسية مفتوحة بين الرياض ونيودلهي، والتعاون الاقتصادي قائما، وأبواب المملكة مفتوحة أمام العمالة الهندية، والنفط السعودي ومعه بعض القروض الإنمائية متدفقا صوب الهند، الأمر الذي عكس حكمة الطرفين ورغبتهما في المحافظة على روابطهما تحت كل الظروفmiddot; ويمكن القول إن المصالح البينية المشتركة الكثيرة، والروابط الروحية بين مئات الملايين من مسلمي الهند واخوتهم في الخليج، ومسائل التجارة والنفط والعمالة، ومواقف الهند المشرفة من القضايا العربية، وثقل الهند في المحافل الدولية، لعبت كلها دورا مهدئا، وحالت دون نجاح أطراف ثالثة (رغم جهودها الدؤوبة في استثمار عوامل الفرقة المشار إليها آنفا) في إحداث القطيعة بين البلدينmiddot;