الأربعاء:25. 01. 2006

دار laquo;الشروقraquo; تنتظر موافقة الأزهر والمثقفون المصريون منقسمون ...

القاهرة - حلمي سالم

laquo;عاشوا، لم تصحبهم كلمة / ماتوا، لم تصحبهم كلمة / فالفصحى والأوراق المصقولة والاشياء / والحبر الغالي والأوراق الفضية / كانت مسبيّة / يلهو بمفاتنها النبلاء / والناس البسطاء/ عاشوا، لم تصحبهم كلمة / ماتوا لم تصحبهم كلمة/ فاغرف من أعماق البئر / واسق العامل والفرّان وأطفال الحارة / فالناس ظماء / اكتب عن شحذ الهمة / طوبى للحرف الشامخ في الليل منارة / والعار لأبراج العاج المنهارةraquo;.

هكذا تحدث الشاعر الفلسطيني سميح القاسم - منذ اكثر من عقد - موجهاً حديثه laquo;الى نجيب محفوظraquo;، بعدما غرزت في عنقه سكين مهوس ديني قال له آمروه أن نجيب محفوظ كافر، وأن روايته laquo;أولاد حارتناraquo; ملحدة، فرفع المطواة - من غير أن يقرأ حرفاً لمحفوظ - متوجهاً الى رقبة الكفر والإلحاد!.

laquo;الجبلاوي هو جمال عبد الناصر، وآدم وأدهم وقاسم هم أعضاء مجلس قيادة الثورة، كعبد الحكيم عامر وصلاح سالم وعبد اللطيف البغداديraquo;، هكذا فسرّت الطغمة المحيطة بالسلطة السياسية رموز laquo;أولاد حارتناraquo; لكي تحرض عبد الناصر على مصادرة الرواية، عام 1959، حينما نشرها محمد حسنين هيكل في laquo;الاهرامraquo; متسلسلة. كانت هذه البطانة الغاشمة متحالفة مع التأويل الضيق الذي قدمه الازهر حينذاك مطالباً بمصادرة الرواية، وذلك عبر تقرير كتبه ثلاثة من كبار مشايخ الازهر، هم: الشيخ محمد أبو زهرة والشيخ أحمد الشرباصي والشيخ محمد الغزالي.

لقد صارت laquo;أولاد حارتناraquo; - عبر قرابة نصف قرن ndash; laquo;ميدان معركةraquo; بين تيار الاستنارة وتيار الاستظلام. وبعد سكيني الرقبة عام 1994، بادرنا في صحيفة laquo;الاهاليraquo; - بقيادة عبد العال الباقوري، رئيس التحرير وقتها - بنشر الرواية كاملة في عدد خاص من الصحيفة (34 صفحة) وهو النشر الذي احتجت عليه جهتان: الأولى هي جريدة laquo;الاهرامraquo; التي كانت تعتبر نفسها صاحبة حق نشر الرواية منذ عام 1959 وهدد ابراهيم نافع (رئيس تحرير الاهرام وقتذاك) خالد محيي الدين (رئيس حزب التجمع صاحب laquo;الاهاليraquo;) برفع قضية على laquo;التجمعraquo; طالباً تعويضاً قدره مليونا جنيه والجهة الثانية هي: نجيب محفوظ نفسه، الذي صرح بأنه لم يعط موافقة بنشرها في laquo;الاهاليraquo; لأنها مصادرة من الازهر!.

قبل شهرين أصدر مجدي الدقاق - رئيس تحرير مجلة laquo;الهلالraquo; الجديد - عدداً خاصاً عن نجيب محفوظ، بمناسبة عيد ميلاده الرابع والتسعين، ساهم فيه اكثر من اربعين كاتباً، ثم أراد أن يتوج احتفاله بنجيب محفوظ، بعمل كبير جريء، هو طبع laquo;أولاد حارتناraquo; في طبعة شعبية متاحة. ولعله في ذلك كان متكئاً على المعنى الداعم لحرية الفكر وللاستنارة الذي تضمنته رسالة الرئيس مبارك الى محفوظ، والمنشورة في صدر ذلك العدد الخاص من laquo;الهلالraquo; والذي كان عنوانه laquo;عش ألف عامraquo;. ولعله كان متكئاً على المناخ الذي اشاعته زيارة عبد المنعم ابو الفتوح - القيادي البارز في جماعة الاخوان المسلمين المحظورة، لكاتبنا بعد النجاح الكبير الذي حققته هذه الجماعة المحظورة) في انتخابات البرلمان الاخيرة! ولعله كان يفتتح مشروعاً شجاعاً واسعاً هو (كما صرح لي) نشر الأعمال الإبداعية والفكرية التي صودرت طوال عقود القرن العشرين، من مثل: laquo;في الشعر الجاهليraquo; لطه حسين و laquo;المنبوذraquo; لأنور كامل و laquo;الإسلام وأصول الحكمraquo; لعلي عبد الرازق و laquo;لماذا أنا ملحد؟ لماذا أنا مؤمن؟raquo; لإسماعيل أدهم ومحمد فريد وجدي وraquo;مقدمة في فقه اللغة العربيةraquo; للويس عوض و laquo;سنوات التكوين في حياة الصادق الأمينraquo; لخليل عبد الكريم، وغير ذلك من اعمال كبيرة مغدورة في تاريخنا الثقافي القريب.

لكن محاولة طبع laquo;أولاد حارتناraquo; أجهضت، بسبب التهديد القانوني الذي اعلنته laquo;دار الشروقraquo; - الذي صارت صاحبة الحق القانوني في نشر كل روايات محفوظ، وبسبب رفض نجيب محفوظ نفسه لنشرها، الا بشرطين موافقة الازهر وتقديم كاتب اسلامي كبير مثل أحمد كمال أبو المجد للرواية!.

انقسمت الحياة الثقافية - ازاء محاولة طبع الرواية في laquo;الهلالraquo; وموقف محفوظ من ذلك - الى قسمين كبيرين:

القسم الاول: يرى انه لا ينبغي ان يتجاهل احد حق الكاتب في ان يحدد الوقت الذي ينشر فيه عمله، وحق الملكية الفكرية للمؤلف وللناشر، لا سيما ان ابراهيم المعلم - صاحب laquo;دار الشروقraquo; - اعلن ان مشروع طبع كل اعمال محفوظ دخل طور التنفيذ، بما فيه laquo;اولاد حارتناraquo; التي انجز كمال ابو المجد مقدمتها بالفعل، ولم يتبق سوى موافقة الأزهر!. القسم الثاني يوجز رأيه في ما يأتي:

(أ) - ان احترام نجيب محفوظ - كرمز جليل - أمر لا جدال فيه، بما في ذلك احترام حقه الادبي والقانوني والاخلاقي، لكن laquo;أولاد حارتناraquo; - بالذات - ليست مجرد رواية عادية ينطبق عليها المنظور القانوني المحض من حقوق نشر ومؤلف وملكية فكرية. فهي صارت - ولا تزال - علامة على المعركة الفكرية بين أهل الحبس وأهل الحرية في الخمسين سنة الاخيرة ولذلك فإن قول مجدي الدقاق laquo;إن الرواية صارت ملكاً للشعب كلهraquo;، ليس كلاماً شعارياً فارغاً كما وصفه بعض المثقفين إذ هي laquo;ملك للشعبraquo; بمعنى انها محور موقعة دائرة بين قوى التجمد وقوى التجدد.

(ب) - ان نجيب محفوظ بطلبه موافقة الازهر وبطلبه مقدمة لكاتب اسلامي، إنما يعطي شرعية المنح والمنع لمن ليس له هذه الشرعية. فالازهر الشريف - من ناحية الاصل القانوني - ليس من سلطته مراقبة الفكر والابداع، بالموافقة او الرفض. وان قانون تنظيم الازهر عام 1961 لا ينيط به سوى حماية القرآن الكريم والاحاديث النبوية من كل تحريف أو إساءة. ومحفوظ، بتسليمه هذه laquo;الضبطيةraquo; للازهر انما يعود بالحركة الثقافية المكافحة من أجل حرية الفكر والابداع بعيداً من وصاية الازهر، منذ نصف قرن - الى المربع الرقم واحد، بما يهدر تضحيات ونضالات في سبيل حرية الابداع (وفي قلبه ابداع محفوظ نفسه).

(ج) - ان المفكر الاسلامي محمد الغزالي، الذي اقترح محفوظ - سابقاً - ان يكتب مقدمة للرواية باعتباره مفكراً اسلامياً معتدلاً، هو أحد مدبجي تقرير الازهر عام 1959 الذي اعلن ان فيها كفراً وإلحاداً، وهو الذي شهد أثناء محاكمة قتلة فرج فودة، بأن فودة كان يستحق القتل، وان قاتليه لم يخطئوا الا في اضطلاعهم بمهمة القتل للكافر، بينما هي مهمة السلطات التنفيذية!.

(د) - يعرف الجميع ان لدى نجيب محفوظ فصلاً تعسفياً حديدياً بين موقفه في ابداعه الروائي وموقفه في الحياة العامة الجارية، وهو يقول دائماً: laquo;صدقوا رواياتي لا مواقفي العمليةraquo; ولقد قال كلمته الكبرى داخل النص في laquo;أولاد حارتناraquo;، لكنه في الحياة العامة يحرص على المواءمة والتوازنات والتحوط، لكن حرصه على المواءمات لا ينبغي ان يضعه موضع المكرس لهيمنة المؤسسات الدينية على الادب! وهي المواءمات التي دفعت البعض الى السؤال: laquo;اذا كان محفوظ حريصاً الى هذا الحد على المواءمات مع الشعور الديني، فلماذا كتب الرواية أصلاً؟raquo;.

(هـ) - ان laquo;أولاد حارتناraquo; مطروحة على أرصفة باعة الصحف في القاهرة، ونعرف أن تجاراً يعيدون تصوير نسخة بيروت ويبيعونها في السوق، فلماذا لم تظهر مسألة الحقوق والملكية الفكرية والمحامون، إلا حينما عزمت دار laquo;الهلالraquo; على نشرها؟ وهل يُعقل ان تقرأ الرواية في كل الوطن العربي، وأن تكون أحد أسباب فوز محفوظ بجائزة نوبل، بينما تحظر في مصر، وصانع الحظر هو المؤلف نفسه؟!

إن احترام شيخنا الروائي الجليل مصون، وتقدير ارادته وحقوقه واجب أصلي، لكن الدفاع عن حرية الادب بعيداً من قبضة مشايخ مجمع البحوث الاسلامية وعن قبضة السلطة السياسية، هو واجب اصلي كذلك واصيل.

وعلى ذلك، فإن التيار الغالب من المثقفين المصريين يناشد محفوظ ودار laquo;الشروقraquo; أن ينشرا الرواية من دون اذن من احد، ومن دون تزكية من كاتب اسلامي مستنير أو مظلم. هذه رواية غير مصادرة (لأن تقرير الازهر السابق لم يتخذ قراراً بمصادرتها فهو لا يملك ذلك)، وقد أذن الشعب بنشرها لا الأزهر، وقد زكتها الحركة الثقافية المصرية والعربية قبل سنوات، فهي ليست في حاجة الى تزكية كاتب مهما كان شأنه.

laquo;يا كبيرنا محفوظ: لا تُعِدْ - بيديك - الأغلال الى أقدامناraquo;، هذا هو نداء الكتاب والمبدعين الى الرجل الجليل ذي الضحكة المجلجلة laquo;وطوبى للحرف الشامخ في الليل منارةraquo;.