تنحية الشيخ سعد بداية الأزمة الكويتية وليس نهايتها
د. سعيد الشهابي
جاء الاعلان عن إزاحة الشيخ سعد العبد الله عن إمارة الكويت ليثير مزيدا من التساؤلات بدلا من الاجابة عليها. فالخلاف بين أقطاب الأسرة الحاكمة في الكويت ليس خافيا علي أحد، ولكن لم يكن متوقعا ان يتواصل ويفرض نفسه علي الساحة السياسية بالشكل الذي حدث بعد وفاة الامير السابق، الشيخ جابر الأحمد الصباح، في منتصف الشهر الحالي. فقد تحول الاستخلاف الي أزمة كبيرة في اوساط الحكم، ما تزال ذيولها تضغط علي الوضع السياسي في هذه الامارة الخليجية التي تمتلك عشرة بالمئة من الاحتياطي النفطي العالمي. ويصعب التنبؤ بمدي قدرة عائلة آل صباح علي احتواء تداعيات الأزمة في الوقت القريب، وهي الأخطر منذ الاجتياح العراقي لأراضيها قبل اكثر من خمسة عشر عاما. فقد أعادت تلك الازمة الي الأذهان مشكلة الحكم التوارثي في منطقة الخليج، وهي مشكلة لا تقتصر علي الكويت فحسب، بل في بقية دول مجلس التعاون الخليجي. وحتي في البلدان التي شهدت في الفترة الاخيرة تحولا هادئا في السلطة مثل السعودية والبحرين، فان مشكلة الاستخلاف تمثل احد وجوه المشكلة السياسية للانظمة الحاكمة.
بعد وفاة الشيخ جابر يوم الاحد 15 كانون الثاني (يناير) 2006، بدت مسألة الاستخلاف وكأنها محسومة سلفا، حيث أعلن عن تسلم ولي العهد، الشيخ سعد العبد الله الصباح، إمارة الكويت خلفا له. ولكن سرعان ما اتضح ان المسألة ليست بتلك السهولة، وان الأمير الجديد عاجز من الناحية الصحية عن القيام بأبسط شؤون الحكم. هذا العجز ناجم عن امراض متراكمة عاني منها منذ مطلع التسعينات، واصبحت تزداد حدة مع تقادم عمره الذي يبلغ الآن 76 عاما. وخلال سفره للعلاج في الصيف الماضي حدثت تحركات في اوساط الاسرة الحاكمة لعزله عن ولاية العهد قبل عودته الي الكويت، وأشيع ان الشيخ سعد سوف يعلن تنازله بعد عودته، ولكنه لم يفعل ذلك، وبقيت أزمة الاستخلاف تغلي تحت السطح. وفي الايام الاخيرة التي اعقبت وفاة الامير السابق، مورست ضغوطا داخل العائلة الحاكمة لحمل الشيخ سعد علي التنحي عن الحكم، وتحويل الامارة الي الشيخ صباح الاحمد، الذي كان رئيسا للوزراء، والرجل القوي في الكويت منذ فترة طويلة. الشيخ سعد الذي بلغ منتصف العقد الثامن من العمر، يعاني من امراض عديدة منذ ان اجريت له عملية جراحية في 1997 لازالة جزء من القولون. ولكن وضعه الصحي لم يتحسن ابدا منذ تلك العملية، وتدهورت صحته تدريجيا حتي فقد قدرته علي تمييز الاشخاص، وعجز عن اداء مهماته الشخصية. وساد الشعور بين المطلعين علي اوضاع العائلة الحاكمة عن قرب بعجزه الكامل عن القيام بمهمات الحكم، وضرورة التنازل عن منصب ولاية العهد. ولكن حساسية العلاقات واقتسام الحكم بين افخاذ العائلة الحاكمة حالت دون التوصل الي نتيجة عملية حول مستقبل الشيخ سعد، وأصر المحسوبون علي جناحه علي ابقائه في منصبه، وحالوا دون ازاحته، الامر الذي أدي الي توتر الاوضاع الداخلية لعائلة آل صباح. وبرز عميدها، الشيخ سالم العلي، كرقم صعب في التوازن بين فخذي العائلة، فهو ينتمي الي جناح السالم، ويصر علي بقاء الشيخ سعد أميرا. وليس معلوما بعد ماذا سيكون موقفه بعد تصويت مجلس الامة بالاجماع علي عزله وتخويل مجلس الوزراء بادارة الدولة حتي تعيين أمير جديد.
الغريب ان الكويت التي يعتبر نظامها السياسي الأكثر تطورا من بين دول مجلس التعاون الخليجي، فتحت هذه المرة، عيون الآخرين علي حقيقة انظمة الحكم العائلية في المنطقة، وأظهرت صعوبة التوافق بين جناحي العائلة الحاكمة فيها، مخاطر نظام التوارث غير المحكوم بأطر ديمقراطية. فهو يقوم اساسا علي ان حكم هذه الامارات الخليجية توارثي ليس للشعب دور مباشر فيه. وفي داخل العائلة ليس هناك اتفاقات مكتوبة لطرق انتقال السلطة بعد وفاة الحاكم، فتارة يذهب الحكم الي الابن الاكبر للحاكم، وتارة يذهب الي الاخ الاكبر للحاكم.
الكويت لديها مشكلة خاصة بها. فوفقا للاتفاقات المعمول بها فان الحكم يتداول بين جناحي الجابر والسالم، وهذا يعني ان الأمير الجديد يجب ان يكون من فرع السالم، ولذلك كان هناك اصرار علي ابقاء الشيخ سعد العبد الله، وليا للعهد برغم حالته الصحية المتداعية. ويصر جناح السالم علي الاحتفاظ بنصيبه في الحكم، وعدم التنازل عنه. ويعتبر الشيخ سالم العلي، وهو من رموز العائلة الحاكمة، لاعبا اساسيا في قضية الاستخلاف. وقد أثار اللغط قبل بضعة شهور عندما اقترح تشكيل مجلس للحكم، لعلمه بعدم قدرة الشيخ سعد علي القيام بأعباء الحكم بسبب حالته الصحية، ولكن اقتراحه لم يلق استحسانا في اوساط العائلة ومجلس الامة. وبعد وفاة الشيخ جابر، بدا لفترة وجيزة ان عملية انتقال الحكم قد تمت بسهولة، حيث تم الالتزام بمبدأ استلام ولي العهد مقاليد الحكم بعد وفاة الحاكم، ولكن ذلك لم يدم طويلا. فسرعان ما انتهي باقصاء الشيخ سعد عن الحكم. وكان واضحا اصرار جناح الجابر علي منع الشيخ سعد من الامارة منذ سنوات لأسباب من بينها اعتلال صحته. فقبل عامين صدر قرار بفصل ولاية العهد عن رئاسة الوزراء، حيث اقتصر دور الشيخ سعد علي ولاية العهد، وعهد الي الشيخ صباح الاحمد برئاسة الوزراء. وفيما رأي البعض ان هذه الخطوة ايجابية وانها تفتح الباب امام رئيس وزراء من غير افراد العائلة الحاكمة، اعتبر جناح السالم ان تلك الخطوة تهدف للحد من سلطات الشيخ سعد. وفي الصيف الماضي جاءت محاولة اقصائه عن ولاية العهد ايضا، ولكن لم تنجح المحاولة بسبب اصراره علي البقاء في منصبه. وبعد وفاة الشيخ جابر لم يكن هناك مجال سوي الاعلان عن تولي الشيخ سعد الامارة، وكان ذلك بداية الأزمة السياسية والدستورية الحالية.
القضية بدت دستورية بدرجة كبيرة. فالدستور ينص علي ان الكويت إمارة وراثية يتوارثها أحفاد الأمير مبارك الكبير الذي حكم البلاد من عام 1896 إلي 1915. ووفقا للخبير الدستوري الدكتور محمد المقاطع فان الكويت دولة مؤسسات، وإجراءات تزكية الأمير وولي العهد منصوص عليها في الدستور وفي قانون توارث الامارة ذي الصفة الدستورية... وفي حال طلب سمو الأمير تنحيته أو في حال طلب مجلس الوزراء تنحيته لفقدانه أحد شروط توليه مسند الامارة، وبعد التصويت بغالبية الثلثين بالموافقة من قبل مجلس الأمة، فـإن مجلس الوزراء في هذه الحالة تكون له صلاحيات الأمير مدة ثمانية أيام يتم خلالها ترشيح أحد ذرية مبارك الصباح لتولي مسند الامارة في اجراءات مشابهة لتزكية ولي العهد عبر موافقة مجلس الأمة بالتصويت وبغالبية أعضائه . هذا الطريق الدستوري ليس مضمون النتائج ما دامت الأزمة تأخذ ابعادا سياسية ترتبط بالعلاقات في اوساط الاسرة الحاكمة نفسها. وبالتالي، ففي الوقت الذي شعر فيه الشيخ صباح بقوة دستورية بعد ان حظي بدعم عدد كبير من افراد اسرته لتولي الامارة، فانه يعلم التبعات السياسية داخل العائلة نفسها لمثل هذه الخطوة، خصوصا مع اصرار جناح الشيخ سعد علي عدم تنازلهم عن حقهم في الامارة. اما الخيارات التي كانت متاحة امام الشيخ صباح قبل الاعلان عن الاتفاق بين فرعي العائلة فهي محدودة. يقول النائب، ورئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الأمة الكويتي، محمد الصقر إن أمام الشيخ صباح الأحمد ثلاثة طرق لتخطي الإشكال الدستوري: الأول هو أن يعلن أمير البلاد الشيخ سعد تنازله عن منصب الإمارة، لصالح من يختاره، والثاني أن يقرر مجلس الوزراء عدم أهلية الأمير لأي سبب كان، ومن ثم يرفع مجلس الوزراء ذلك إلي مجلس الأمة للتصويت عليه، واختيار أمير آخر، والطريق الثالث هو أن يقوم الشيخ سعد بالفعل بالذهاب إلي جلسة مجلس الأمة الاستثنائية من أجل تأدية القسم الدستوري، وإذا ما أخفق في أداء القسم بشكل صحيح، فإن مجلس الأمة يقرر عدم أهليته . وقد بادر الشيخ صباح لقطع الطريق امام الشيخ سعد للخيارين الاول والثالث، وسارع الي الخيار الثاني الذي جعل الـ24 ساعة التي سبقت حسم الموقف من أشد أيام الأزمة توترا.
وهكذا كادت خلافات العائلة الحاكمة تعصف باستقرار البلاد، الأمر الذي يزيد مهمات الشيخ صباح الاحمد تعقيدا. يحدث هذا في وقت تضغط فيه الاوضاع الاقليمية علي المنطقة عموما، والكويت ليست بمنأي عن ذلك. وهنا تجدر الاشارة الي الرسالة التي نسبت الزرقاوي في الصيف الماضي والتي دعا فيها اتباع التنظيم إلي إشعال الفتن الطائفية في الدول المجاورة للعراق، والتي ظهرت أولي ملامحها في الكويت في مواجهات مع مجموعة متشددة، حكم علي أعضاء منها بالإعدام. وثمة بعد آخر للمشكلة الأمنية ظهر في حوارات داخلية حادة في أجواء شحن طائفي ومذهبي شيعي وسني، الأمر الذي دفع أمير البلاد السابق لتوجيه خطاب إلي الشعب الكويتي في العشر الأواخر من رمضان الماضي مناديا بضرورة تماسك الأسرة الكويتية ووحدتها، وباعتبار أن الوطن القوي هو الوطن الموحد وهو الذي بوحدته يحقق الإنجازات إن لم يحقق المعجزات . هذه الوحدة التي اشار اليها الشيخ جابر تبدو في الوقت الحاضر، علي الأٌقل، بعيدة المنال. فالخلاف الحاصل بين اقطاب الحكم ليس حدثا عارضا، بل يعكس أزمة لا تخص الكويت فحسب، بل لها بعدها الخليجي الواسع. فبقية العائلات الحاكمة ليست في وضع أفضل، كما أسلفنا، لأن اختيار الحاكم ليس منوطا بالشعب عبر صناديق الاقتراع، بل خاضع للتوازنات في اوساطها، والصراعات علي السلطة بين افخاذها تارة، وبين اجيالها تارة اخري، او بين مزيج منهما ثالثة. وما دام الأمر يتعلق بالحكم، فان تاريخ حكم العائلات في العالم، خصوصا في العالم الاسلامي، كثيرا ما نجم عنه التقاتل بين الاخوة وابناء العمومة في عهد الامويين والعباسيين وغيرهم. ولكي تتلاشي احتمالات التقاتل علي المناصب والوجاهات والكراسي، فمن الضروري الاحتكام الي المواطنين لاختيار حكامهم، ضمن أطر دستورية متفق عليها. وحتي لو بقيت الاسر الحاكمة بمنطقة الخليج في موقع الملك، فبالامكان التحول التدريجي نحو ملكيات دستورية تحصر دور تلك العائلات بالملك، وتترك الحكم للنواب المنتخبين عن الشعوب. ان ما يجري في الكويت هذه الايام، وهي الدولة الخليجية الوحيدة التي تتوفر علي قدر من التمثيل البرلماني، يقتضي اعادة النظر في ما تعتبره العائلات الحاكمة من ضمن الثوابت، واخضاع مسائل الحكم والاستخلاف لصناديق الاقتراع. وقد أثبتت تجربة الكويت صعوبة استمرار الحكم بالنمط التقليدي القبلي الذي تجاوزه الزمن، فذلك مخالف لسنن التطور والتقدم وقيم الشوري والديمقراطية في ممارسة الحكم.
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
التعليقات