خيرالله خيرالله
في السادس من أكتوبر- تشرين الأوّل من العام 1981 ، أغتيل الرئيس أنور السادات في ما سمّي حادث المنصة. كان أنور السادات يشهد عرضاً عسكرياً عندما اغتاله جنود من المشاركين في العرض علي رأسهم خالد الاسلامبولي. وتبيّن لاحقاً أن العملية أُعدّت بعناية كبيرة وأن مجموعة إسلامية متطرّفة تقف وراءها. وقد اعتقل لاحقاً عدد من أفراد هذه المجموعة علي رأسهم عبّود الزمّر.
ليس معروفاً حتي اليوم من يقف حقيقة وراء اغتيال السادات. هل هم المنفذون وحدهم وأفراد المجموعة التي كانت خلفهم، أم هناك ما هو أبعد من ذلك؟ لا تزال هناك أسئلة كبيرة تحتاج ألي أجوبة علي الرغم من مرور ربع قرن علي حادث المنصّة، لكنّ الأكيد أن أغتيال السادات طوي صفحة من تاريخ الشرق الأوسط الحديث، أقله من زاوية أن الرئيس الراحل استطاع تغيير كلّ المعطيات الإقليمية جذرياً عندما وقع معاهدة سلام مع إسرائيل في مارس- آذار من العام 1979 . أخرجت المعاهدة أكبر دولة عربية من جبهة المواجهة مع أسرائيل. ومنذ ذلك اليوم، لم يعد في إلأمكان الحديث عن فتح جبهات عدّة في الوقت ذاته مع الدولة اليهودية. بقيت جبهة وحيدة مفتوحة مع إسرائيل هي الجبهة اللبنانية التي يستخدمها العرب وغير العرب للابتزاز ولعقد صفقات، وإن بطريقة غير مباشرة، مع اسرائيل أو مع الولايات المتحدة علي حساب لبنان واللبنانيين.
ما أحدثه السادات في المنطقة بزيارته القدس المحتلة في نوفمبر- تشرين الثاني من العام 1977 كان أقرب إلي زلزال من أيّ شيء آخر. كان الرد العربي مجرّد رد تكتيكي علي قرار استراتيجي. كان ردّاً دون المستوي نظراً إلي أن زيارة السادات للقدس أفقدت العرب الآخرين توازنهم وأفقدتهم القدرة علي استيعاب النتائج التي يمكن أن تنجم عن الزيارة التي كانت من نوع المغامرات التي لا يقدم عليها سوي رجال غريبي الأطوار من نوع أنور السادات.
كيف سيقوّم التاريخ أنور السادات؟ لا يزال باكراً الإجابة عن السؤال، ذلك أن شخص الرئيس المصري الراحل المليء بالتناقضات الذي خلف جمال عبدالناصر في ظروف، أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها غامضة، لا يزال موضع أخذ وردّ يتسمان بالحدة. أنّه أخذ وردّ بين المعجبين به وبأقدامه من جهة وأولئك الذين لا يتورّعون عن وصفه بالخائن من جهة أخري. لا يزال باكراً إعطاء رأي موضوعي في شخص صار رئيساً لمصر في العام 1970 لأسباب ما زالت مجهولة كان أوّل ما فعله ضرب ما كان يسمّي quot;مراكز القويquot;، أي رجالات عبدالناصر الذين كانوا مرتبطين إلي حدّ ما بموسكو، تمهيداً لطرد الخبراء السوفيات من بلده في العام 1972 ثم خوض حرب أكتوبر بسلاح سوفياتي! ما كلّ هذه التناقضات في شخص أنور السادات الذي شجع علي عودة الإخوان المسلمين إلي الساحة الوطنية المصرية لمواجهة اليسار المصري وذيول تصفيته لمراكز القوي الناصرية وابتعاده عن السياسة السوفياتية تمهيداً للإعلان أن تسعاً وتسعين في المئة من أوراق الحل في المنطقة في يد أمريكا ولا أحد غير أمريكا. وذهب السادات، الذي صار يعرف بquot;الرئيس المؤمنquot;، إلي حدّ القول أمام أحد زوّاره في بداية السبعينات أنه سيجعل من زيارة واشنطن عنواناً للوطنية بعدما كانت الوطنية تقضي بزيارة موسكو ودول المعسكر الشرقي... لم يكن هناك أيّ حدود لغرور السادات وللتصور الذي امتلكه لدوره الإقليمي ولحجم زعامته... ولتناقضاته. هذه التناقضات التي جعلته يخوض حرب أكتوبر بعد طرده الخبراء السوفيات وهو يدرك جيّداً أن السلاح الوحيد الذي لدي جيشه سلاح سوفياتي!
استمرّ أنور السادات بتناقضاته إلي النهاية في وقت كان العالم العربي يعاني حالاً من الضياع في ظلّ التجاذبات بين البعثين السوري والعراقي وشخصيتي حافظ الأسد وصدّام حسين( كان الرجل القوي في العراق حتي العام 1979 حين صار رئيساً خلفاً لأحمد حسن البكر ) اللتين فرضتا علي العرب التعاطي العشوائي واللاعقلاني مع سلسلة المغامرات التي بدأها أنور السادات. تلك المغامرات التي توجت بتوقيع اتفاقي كامب ديفيد بين مصر وأسرائيل برعاية أمريكية في سبتمبر- أيلول من العام 1978 .
أدّي التقارب المفاجئ بين البعثين السوري والعراقي، الذي بدأ مع زيارة السادات للقدس ووصل أإي حدّ وضع الأسس لوحدة بين البلدين، ما لبثا أن تراجعا عنها، إلي مزايدات أفقدت العرب الآخرين القدرة علي التعاطي الهادئ مع السياسة المصرية الجديدة. ولم يستطع الملك فهد بن عبدالعزيز، الذي كان لا يزال وليّاً للعهد في السعودية، الإيفاء بالوعود التي أعطاها للرئيس الأمريكي جيمي كارتر بالتعاطي الإيجابي مع نتائج قمة كامب ديفيد التي جمعت بين كارتر والسادات ومناحيم بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتذاك. وتحدّث الرئيس الأمريكي السابق في ندوة عقدت لاحقاً في إحدي الجامعات الأمريكية عن خيبة إزاء الموقف السعودي من نتائج قمة كامب ديفيد وعودة الرياض عن وعود كانت أعطيت إلي الإدارة الأمريكية. وفحوي هذه الوعود، علي حدّ تعبير كارتر، أن السعودية ستدعم ما يصدر عن القمّة وستتعاطي معها بإيجابية.
بيناأندفاع السادات والتناقضات التي تحويها شخصيّته المعقّدة من جهة، والوضع العربي الذي تميّز بأقصي درجات اللاعقلانية التي بلغت ذروتها بعودة التوتر إلي العلاقات بين سوريا والعراق من جهة أخري، تغيّر الشرق الأوسط كلّياً. للمرة الأولي منذ قيام دولة إسرائيل علي أرض فلسطين، كان علي العرب التعاطي مع واقع جديد يتمثّل في غياب مصر عن الصراع مع إسرائيل. لم يعد في استطاعة العرب الإجابة عن السؤال الأساسي هل أستفادوا من عزل مصر، طوال عقد من الزمن، أم أن مصر- السادات هي التي عزلتهم؟ لم يحاولوا التعاطي بواقعية مع المعضلة الناجمة عن غياب مصر في وقت برزت مخاطر جديدة علي المنطقة تمثّلت في الحرب العراقية- الإيرانية التي كانت الجسر الذي عادت مصر عبره إلي العرب... أو عادوا عبره إليها ولكن في غياب أنور السادات. في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، بعد سبع سنوات علي اغتيال السادات، عاد العرب إلي مصر في غياب الرجل الذي أعاد خلط الأوراق في المنطقة وذهب في النهاية ضحيّة إحدي الجماعات المتطرفة التي حاول نظامه استغلالها وتوظيفها في لعبة التوازنات الداخلية الجديدة في مرحلة ما بعد عبد الناصر.
غيّر أنور السادات كلّ المعطيات في الشرق الأوسط. ولا بدّ من مرور سنوات طويلة قبل الحكم علي الرجل الذي كان قبل كلّ شيء مغامراً سياسيا.ً أدرك السادات ببعد نظره أموراً كثيرة علي رأسها أن مصر لا يمكن أن تبقي في حال حرب مع أسرائيل إلي ما لانهاية وأنّ لا بدّ من ألانصراف أإي معالجة قضاياها الداخلية. حاول نقل المنطقة إلي مرحلة أخري، لكنه لم يأخذ في الاعتبار خطورة العقل البعثي المتحجر في سوريا والعراق، هذا العقل الذي لم ير في القضية الفلسطينية يوما سوي تجارة مربحة ليس إلاّ ووسيلة للاحتفاظ بالسلطة وقمع المواطن وخنقه.
عالج السادات بعض القضايا الداخلية ونجح في ذلك نسبيّاً، لكنّه تجاهل قضايا أخري لم يدرك أهميّتها. علي رأس ما تجاهله أن التساهل مع قضايا التطرّف الديني وعدم التصدّي لها ، بل السعي إلي استغلالها سيف ذو حدّين. وقد ذهب السادات ضحيّة تذاكيه في هذا المجال. اعتبر نفسه قادراً علي التلاعب بالمتطرفين وتوظيفهم لمصلحته... إلي أن أنقلب السحر علي الساحر. كان أنور السادات لاعباً اقليمياً كبيراً، لكنّه سقط في لعبة محلّية صغيرة! هل ينصفه التاريخ أم يدينه؟ الأكيد أن لا وجود لمحايدين لدي الحديث عن أنور السادات وتركته.
التعليقات