تركي الحمد

لقد كان دخول الولايات المتحدة إلى العراق، من دون برنامج واضح لما سيكون عليه الأمر في اليوم التالي، خطأ فادحاً يعاني العراق من نتائجه حتى هذه اللحظة، ولمستقبل غير منظور. بل ان الولايات المتحدة تعاني من حالة فيتنام أخرى نتيجة الدخول من دون وجود خطة لما بعد ذلك. الدخول بذاته لم يكن خطأً على الإطلاق، فلم يكن بالإمكان إسقاط صدام حسين ونظامه من دون تدخل خارجي حاسم، ولكن الخطأ كان في إفراغ العراق من كل مؤسساته السياسية السابقة، وخاصة الحزب والجيش، وبشكل كامل وسريع، من دون أن يكون هناك ما يحل محلها، فكان الفراغ الذي يجب أن يُملأ، فالحياة السياسية لا تحتمل الفراغ. ما يجري في العراق اليوم من عنف ودمار، راجع في جزئية منه إلى هذا الفراغ المتحدث عنه، ويبقى السبب الرئيس هو انفجار التناقضات الداخلية العراقية المكبوتة طوال عهود الشمولية.

وسواء اتفقنا أم لم نتفق على قضية الدخول الأميركي للعراق، وهل كان خطأً من أساسه أم لا، أو أن المسألة نسبية خاضعة في الحكم عليها إلى عدة اعتبارات أخرى، فإن القضية اليوم هي قضية الخروج الأميركي من العراق.

لقد دخلت الولايات المتحدة العراق، وجرى ما جرى، وأصبح كل ذلك جزءاً من تاريخ لا يمكن تغييره، ولكن قضية الخروج الأميركي مسألة سياسية راهنة اليوم، وبالتالي من الممكن التحكم في مجرياتها قبل أن تتحول إلى تاريخ خارج القدرة على التحكم. فالمستقبل يعتمد على قرارات اليوم، بمثل ما كان اليوم مستقبل الماضي، وتشكل وفقاً لقرارات ذلك الماضي.

اليوم، هنالك أصوات تنادي بالخروج الأميركي من العراق، سواء كانت تلك الأصوات آتية من قبل رجال السياسة في أميركا، وخاصة في ظل أجواء انتخابية تغلب عليها المزايدات والوعود التي تختفي ما أن تُمارس السياسة فعلياً، أو من قبل laquo;المناضلينraquo; العرب، أو من قبل laquo;أهل الجهادraquo;، الذين يتوقون للحظة الخروج لأسباب لا علاقة لها بدين بقدر ما أن السياسة والمصالح هي التي تقف وراء مثل هذا السلوك. وسواء كنا نتحدث عن رجال السياسة، الأميركيون منهم وغير الأميركيين، المناضلين وغير المناضلين، أو كنا نتحدث عن laquo;أهل الجهادraquo;، فإن الموقف الداعي للخروج هو موقف خطابي، وفي أحوال كثيرة وجداني، لا علاقة له بحقيقة الأوضاع في العراق، ولا علاقة له بالمصلحة العراقية، ناهيك عن مصلحة المنطقة ككل. وبمثل ما أن الدخول الأميركي من دون وجود خطة كان خطأً فادحاً، فإن الخروج الأميركي اليوم، وقبل أن تستقر الأوضاع في العراق، هو كارثة، بل لنقل أم الكوارث.

فلو خرجت أميركا اليوم من العراق، فإن أول أمر سيحدث هو حرب أهلية طائفية لن تبقي ولن تذر. فالتناقضات الطائفية الداخلية، التي أذكاها النظام القديم ولعب على أوتارها من أجل أغراض سياسية تتعلق باستمرار وجوده، سوف تتحول إلى نار حارقة لن تتوقف إلا حين لا تجد ما تأكله. الوجود الأميركي في العراق لن يلغي هذه التناقضات بطبيعة الحال، ولكنه سيحد من مداها وقوتها، حتى يمكن بناء مؤسسات قادرة على امتصاص هذه التناقضات، ومن ثم إعادة العراق إلى السلم الاجتماعي من جديد. حقيقة أن الاحتلال هو جرح للذات، وشرخ للنفس، وصفعة على وجه كبرياء الذات، ولكن عندما تكون هذه الذات تائهة، غير قادرة على معرفة اتجاهات الريح، فإن الاحتلال يكون أخف الضررين في هذه الحالة. فالاحتلال الأميركي لليابان وكوريا وألمانيا كان خيراً لهم في نهاية المطاف، من باب عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وانبثقت الكبرياء القومية في تلك البلاد من ركام الحرب وغصة الاحتلال.

لم يعد لليابان أو كوريا أو ألمانيا قوة عسكرية تذكر، ولكنهم أصبحوا من أرباب عالم اليوم في الاقتصاد والثقافة والرقي بالإنسانية من خلال تقنية وسعت من مجالات الحرية الإنسانية، وتخلصوا من وهم أن القوة لا تكون إلا من خلال العسكر، وهو الوهم الذي ما زال العرب له من العابدين. كوريا الشمالية تملك قنبلة الذرة اليوم، ولكن شقيقتها الجنوبية تملك المال والعمل والتقنية والعلاقات المتوازنة والحميمة مع عالم اليوم، لذا فهي الأقوى في النهاية. سيسقط نظام القمع في كوريا الشمالية، أما في الجنوب، فسيعيش الناس بكرامة العمل رغم وجود الاحتلال، الذي مهما طال فإنه في النهاية وضع مؤقت. والاتحاد السوفيتي السابق كان المنافس الأوحد لأميركا عسكرياً، ولكن اليابان كانت هي الأقوى رغم حرمانها من العسكر، فانهار اتحاد السوفيت وبقيت اليابان. وتصدع سور برلين العظيم، وعادت لألمانيا المجروحة كبرياؤها حين توحدت برلين، رغم استمرار وجود اليانكي في قلب الراين. فنعم لا أحد يُحب أن يكون محتلاً مشروخ الذات، ولكن إذا كان هنالك مثل هذا الوضع فيجب استغلال أفضل ما فيه، والتفرغ للبناء، وهذا هو أفضل سبيل للمقاومة، وذلك كما فعلت كوريا وألمانيا واليابان.

ومن الناحية الإقليمية، فإن الخروج الأميركي من العراق اليوم، وقبل أن تستقر فيه الأحوال، سيجعل من العراق ساحة لصراع الفرقاء من دول الجوار، وكل سيستخدم مناصريه في الداخل من أجل تحقيق غاياته الذاتية، والضحية هي العراق في النهاية. من ناحية أخرى، سيصبح العراق في هذه الحالة منطلقاً وقاعدة لتلك الحركات المهددة لأمن المنطقة واستقرارها ومن ثم ازدهارها، وذلك كما كان الوضع في أفغانستان أيام laquo;الجهادraquo;، ومن بعد ذلك أيام طالبان. فعندما تكون هنالك علاقات اجتماعية، ومن ثم سياسية، متوترة، وولاءات متعددة، وحكم مركزي ضعيف أو شبه معدوم، وفراغ مؤسسي كبير، بعد الخروج من شمولية مطلقة، فإن ذلك يشكل مزيجاً متفجراً بحد ذاته، فما بالك إذا كان كل ذلك محاطاً بدول وجماعات لها غايات ومصالح تحاول تحقيقها من خلال إيجاد موقع قدم لها في البلد المعني، وهو العراق في حالتنا هذه. وبالنسبة للحالة الأميركية سيكون الوضع بالخروج أسوأ من الوضع بالبقاء. فأميركا اليوم هي laquo;الشيطان الأكبرraquo; بالنسبة لأطراف كثيرة، وفي حالة الخروج، فإن العراق سيتحول إلى محطة انطلاق لتلك الأطراف لضرب أميركا نفسها، وبلاد غربية وشرقية أخرى، وذلك بمثل ما كان التخطيط للحادي عشر من سبتمبر منطلقاً من أفغانستان. بإيجاز العبارة، فإن الخروج الأميركي اليوم من العراق، لن يكون في صالح العراق ولا في صالح المنطقة ولا في صالح أميركا، وذلك إذا كان العقل هو الهادي، أما إذا كان الأمر غير ذلك، فالمستقبل الذي يتشكل بقرارات اليوم، سيكون أكثر سواداً من المداد.