جهاد فاضل


لم يعد للموارنة اللبنانيين في الوقت الراهن ذلك النفوذ الكبير الذي كان لهم منذ بداية القرن الماضي وحتي عشية الحرب اللبنانية التي اندلعت في عام ،1975 فمن يتفحص المشهد السياسي اللبناني الحالي يجد الموارنة موزعين علي فريقي الصراع الأساسيين فيه وهما الشيعة والسنة. وإذا كان أبرز زعماء المارونية السياسية حالياً هما العماد ميشال عون وسمير جعجع، فإن الأول ألحق نفسه بحزب الله وأقام معه تحالفا، في حين يعتبر الثاني، أي سمير جعجع، ملحقاً بالتيار السني، وهو تيار المستقبل، أو تيار آل الحريري. ولم يكن هذا الوضع هو الوضع السائد في لبنان علي مدار الخمس والسبعين سنة الأولي من القرن الماضي. فحتي عام ،1975 وبخاصة منذ تأسيس لبنان الكبير علي يد الفرنسيين عام ،1920 كان الموارنة هم اللاعب السياسي الأساسي في لبنان، وحولهم كانت تدور مختلف الطوائف، وتلتزم سياساتهم. وقد لا نغالي إذا زعمنا أن لبنان الحديث هو صناعة فرنسية/ مارونية، أو هو صناعة فرنسية أُعطيت للموارنة. فقد أُنشئ من أجلهم بالدرجة الأولي إثر انهيار السلطنة العثمانية، ونتيجة المساعي التي قامت بها نُخب مارونية لدي فرنسا والكرسي الرسولي أثمرت هذا الكيان السياسي الذي كان قبل إنشائه، وكما هو معروف، جزءاً من بلاد الشام أو من سورية الطبيعية أو من السلطنة العثمانية. وإذا كان للموارنة بعد المذابح التي نشبت بينهم وبين الدروز عام 1860 كيانهم الصغير الذي سُمي يومها بمتصرفية جبل لبنان ، فإن هذا الكيان قام أصلاً بمساع من الدول الأوروبية في حينه، وبعد موافقة اسطنبول.

ومع أن عدداً من رؤساء لبنان بدءاً من العشرينيات من القرن الماضي وصولاً إلي الاربعينيات منه، لم يكونوا كلهم موارنة، إذ كان بينهم أرثوذكس كألفرد نقاش، أو بروتستانت كأيوب ثابت، إلا أن هذا الأمر لم يؤثر في شيء علي نفوذ الموارنة الذي تنامي مع الوقت، ثم تكرس نهائياً بإعطاء كرسي الرئاسة الأولي لهم. وحتي في فترة رئاسة هؤلاء الرؤساء غير الموارنة للبنان، لم يكن وصولهم إلي الرئاسة بمثابة تحد للموارنة، بقدر ما كان تقديراً لاستحقاق من وصل. فقد كانوا ينتمون إلي الطائفة المسيحية. ولأن المسألة الطائفية يومها لم تكن حادة علي النحو الذي نراه الآن، بل كان الإخلاص للدولة الفتية هو المعيار، فقد كاد شيخ سني معمم من طرابلس، هو الشيخ محمد الجسر الذي كان يشغل يومها رئاسة مجلس النواب، أن يصل إلي رئاسة الجمهورية. كان أكثر نواب المجلس النيابي إلي جانبه، ومنهم غلاة المارونية السياسية كإميل إده، ولكن الذي حال دون وصوله هو المفوض السامي الفرنسي الذي أصدر مرسوماً بحل المجلس، خوفاً من أن يصل مسلم إلي رئاسة الجمهورية، مع أن هذا المسلم كان موالياً لفرنسا وللبنان.

وقد اكتسب الموارنة اللبنانيون نفوذهم من عوامل متعددة. هناك أولاً إقبالهم علي العلم، والانفتاج علي الحداثة، وكان هذا العامل سابقاً علي الانتداب الفرنسي إذ أسهم الموارنة ايما اسهام في بعث اللغة العربية من رقاد القرون، وفي دراسة الأدب العربي وتدريسه، وفي صياغة المعاجم والقواميس وكتب الصرف والنحو، ولهم في هذا الجانب تاريخ مشرف. ولاننسي أن الفرنسيين ساعدوا علي إنشاء مدارس لهم، وعلي تغذية الجسر الثقافي الذي نشأ بينهم وبين أوروبا. وخلال الانتداب الفرنسي، وبعده، تحول الموارنة إلي نخبة سياسية وثقافية معاً مؤثرة أيما تأثير في لبنان وفي المنطقة.

وكان من عوامل نفوذ الموارنة ثانياً كون الدستور الذي سارت الحياة السياسية في لبنان علي هديه، وقد وُضع عام 1929 زمن الانتداب الفرنسي، يعطي رئاسة الجمهورية- وقد تكرست للموارنة لاحقاً- سلطة واسعة شبيهة بسلطة الرئاسة في فرنسا، أو في روسيا، اليوم. فالسلطة تتجمع في يديه، ورئيس الوزراء هوبمثابة وزير أول عنده، والوزراء مساعدون له. ومع أن الدستور اللبناني عرف جملة تعديلات في عهد الاستقلال، إلا أن هذه التعديلات كانت تقتصر علي تمديد فترة رئاسة الجمهورية كما حصل علي سبيل المثال زمن الشيخ بشارة الخوري. أما جوهر هذا الدستور، وهو قبض رئيس الجمهورية الماروني علي السلطة بكاملها تقريباً، فقد ظل سارياً حتي التعديلات التي أقرها مؤتمر الطائف الشهير وتكرست بموجب نصوص دستورية جديدة انتزعت من رئاسة الجمهورية صلاحياتها القديمة وأعطت أكثرها للسلطة الإجرائية، أي لمجلس الوزراء مجتمعاً.

وإذا كان الربع الثالث من القرن العشرين شهد ذروة النفوذ الماروني في لبنان، فقد شهد في الوقت نفسه تململاً واسعاً في صفوف الطائفة الإسلامية، وبخاصة في جناحها السني. فقد شكا المسلمون من غبن لاحق بهم نتيجة استئثار المسيحيين عموماً، و الموارنة خصوصاً، بأكثر مراكز السلطة. ولم يعدم الموارنة رداً علي شعار الغبن، إذ رفعوا شعار الخوف. قالوا إنه إذا كانت هناك امتيازات بين أيديهم، فعلي الفريق الآخر أن يتفهم خلفياتها. فوراءها خوف الأقلية من الأكثرية. ثم أن لبنان له شخصيته الفريدة المختلفة عن شخصية أي بلد آخر في المنطقة. فما المانع من أن يكون للمسيحيين فيه وضع خاص؟ وإذا فقد مسيحيوه مثل هذا الوضع، فمن ضمن عدم تحوله إلي كيان يسود فيه التعصب أو الدكتاتورية، ويفقد طابعه المعروف؟ وقد ظل هذا السجال قائماً بين الطائفتين الكبيرتين حتي نشبت الحرب عام 1975 ووضعت حداً لأوزارها في بداية التسعينيات، وعرف لبنان مرحلة جديدة في تاريخه صاغت سوريا ملامحها كافة .

ولكن نفوذ الموارنة بدأ يهتز ابتداء من عام 1975 نتيجة ظروف عدة بعضها متراكم منذ زمن. هناك أولاً تلك الصراعات بين قياداتهم علي الزعامة، وهي الصراعات التي طبعت تاريخهم الحديث بطابعها. وهناك ثانياً هجرةأعداد وافرة منهم إلي الخارج تُعد بمئات الألوف واستقرارها نهائياً فيما يسمونه ببلدان الانتشار . وقد أثر هذان العاملان علي نفوذهم لدرجة القول إنهم باتوا مع الوقت النسيب الفقير في المعادلة اللبنانية بعد أن كانوا ولسنوات طويلة العمود الفقري في السياسة اللبنانية.

باستمرار كانت هناك ثنائية مارونية في القيادة من شأنها شرذمة صفوفهم. زمن الانتداب الفرنسي وبعده زمن الاستقلال، كانت هناك ثنائية بشارة الخوري وإميل إده. وعندما انشق كميل شمعون عن الأول باتا عدوين لدودين انتهت عداوتهما بتسلم شمعون للرئاسة. ونشأ بعد ذلك صراع علي الزعامة بين شمعون وموارنة آخرين كان واجهتهم قائد الجيش فؤادشهاب. ودخل حزب الكتائب في صراعات مريرة في وقت من الأوقات مع الرئيس سليمان فرنجية انتهت بمقتل نجله طوني فرنجيه وهو حادث فصل موارنة الشمال عن موارنة جبل لبنان. ولا ننسي الصراع المرير الذي نشب في الحرب بين العماد ميشال عون وسمير جعجع، وهو صراع يتجدد اليوم. وكان لكل هذه الصراعات أثرها في ضعف الموارنة، وهو ضعف يشاهد اليوم بالعين المجردة، وما من علاج شافٍ له.

أما عن الهجرة، فقد لا يغالي المرء إذا زعم أن أعداداً لا تحصي من المسيحيين اللبنانيين غادرت لبنان إلي الخارج. بدأت هذه الهجرة في أواخر القرن التاسع عشر إلي الأمريكتين بحثاً عن الاستقرار، وهرباً من شح الموارد اللبنانية. ولكن وتيرتها سرعان ما تصاعدت في القرن العشرين لتبلغ أرقاماً عالية منذ الستينيات حتي وقتنا الراهن. وكانت وجهة نظر هؤلاء النازحين أن لبنانهم غير مستقر، فهو إما ذاهب إلي حرب أو ثورة أو فتنة، وإما عائد منها.. ومن التساهل تسمية دولتهم دولة. ومع أن هؤلاء النازحين أقسموا عندما تركوا لبنان أنهم عائدون إليه حتماً فقد ذابوا في سواه ذوباناً نهائياً. ومن يراقب الزيارات التي يقوم بها بطريرك الموارنة إلي الخارج، وتنقلها الفضائيات، يجد أن عدد موارنة الخارج لا يقل أبداً عن عدد موارنة الداخل إن لم يكن أكثر. وإذا كان الشاعر سعيد عقل يزعم أن اللبنانيين في الخارج لا يقل عددهم عن عشرين مليوناً، وهو رقم مبالغ فيه طبعاً، فمما لاشك فيه أن عشرات بل مئات الألوف من الموارنة موزعة الآن فيما يسميه اللبنانيون ببلدان الانتشار وهي تسمية تُرضي الكبرياء الجريحة إذ تصور هذه البلدان علي أنها ساحة لعبقرية اللبناني وابداعه. ولكن أياً كان الرأي في هذه التسمية، فمما لاشك فيه أنه كان لها شأن في اختلال الديموغرافيا اللبنانية الطوائفية، فالموارنة إذا كانوا الطائفة اللبنانية الأولي عند تأسيس لبنان الكبير عام 1920 من حيث العدد، ومن حيث النفوذ أيضاً، فقد باتوا الآن الطائفة الثالثة بعد الشيعة والسنة من حيث العدد والنفوذ أيضاً. ولأن هجرتهم مستمرة اليوم إلي الخارج واندماجهم في المجتمعات الجديدة سهل ومرحب به، نظراً لكفاءتهم، فقد يأتي يوم- ليس ببعيد- يصبح فيه أثرهم في الحياة اللبنانية بمختلف مجالاتها محدوداً جداً.

أود أن أشير إلي حادثة شخصية جعلتني أري مأساة الهجرة المارونية إلي الخارج رؤية عيانية. ففي عام 1970 كان المفكر اللبناني منح الصلح، وهو صديق قديم، مديراً عاماً في القصر الجمهوري زمن سليمان فرنجيه. ولأن قصر الرئاسة كان ينتقل صيفاً إلي مدينة أهدن، وهي مصيف أهل بشري. في الشمال، فقد كنت أرافق منح الصلح لقضاء يومين أو أكثر في الأسبوع في أهدن. ننزل في أحد فنادق المدينة ومنها تبدأ سياحاتنا في المدن والقري المجاورة لها، وهي كلها مارونية. أذكر أن الجوع فتك بناً يوماً ونحن نجتاز بالسيارة قرب إحدي القري، فتوقفنا عندما رأينا مقهي غاية في الشعبية والبساطة إلي جانب الطريق يضم طاولتين أو ثلاث طاولات تقدم الطون والسردين والبيض المقلي، والزيتون وما إلي ذلك. سألنا صاحب المقهي عن اسم القرية، فقال: كفرصغاب فتذكرنا عندها أنه خرج من هذه القرية في العشرينيات والثلاثينيات نواب كرام ذوو نزعة عروبية كان رياض الصلح يمضي في الصيف فترات طويلة عندهم. كما تذكرنا أنه خرج منها أيضاً الأب يواكيم مبارك، أحد ألمع مفكري الموارنة علي مدار تاريخهم. وبعد أن تذكرنا كل ذلك، طرحنا سؤالاً حول عدد سكان كفر صغاب، فتأوه الرجل قبل أن يجيب: في فصل الشتاء هناك عشرة قناديل فقط مضاءة فيها يقصد عشرة بيوت . أما في الصيف فإن عدد القناديل يرتفع ليصبح ثلاثين أو أربعين بسبب صعود بعض أبنائها المقيمين في طرابلس لقضاء أشهر الصيف فيها. وعندما قلنا للرجل: وأين أهل كفر صغاب يا عم؟ قال: كلهم في المهجر وكانوا قبل أن يهاجروا في حدود العشرة آلاف نسمة.. عندها التفت إلي منح الصلح وقال: راحوا الموارنة !.

وما قيل عن كفر صغاب، يقال عن عشرات القري والبلدات والمدن المارونية اللبنانية التي نزح أهلها نهائياً إلي الخارج ولم يعد يربطهم به سوي صوت وديع الصافي يغني لهم دون طائل: يا مهاجرين ارجعوا !