سمير عطا الله
خرجت من بيروت قبل اغتيال بيار الجميل بيومين أو ثلاثة، كنت مستعجلا السفر، فالاشاعات تملأ المدينة، وكلها بشع. والتكهنات تملأ الساحات وكلها خراب. والتحليلات تملأ شاشات التلفزيون وكلها نعي. والتصريحات تملأ الأودية، وكلها غربان. واطبق على صدري. وكانت آخر الاشاعات تقول ان طريق المطار سوف تقطع. فقررت أن أسرع، قبل أن أصبح أسير هذه الدائرة المرعبة من الحقد والكره والبغض وسقط الخطاب. اكثر ما أخافني وأرعبني تحليق الطيور المفترسة في اجواء لبنان في انتظار لفظ الانفاس واستسلام الجثث. وزاد خوفي ويأسي عندما رفع الوسيط الوحيد laquo;نبيه بريraquo; يديه مستسلما، ان الابواب قد اغلقت وطوال هذه الفترة لم نسمع صوتا ولم نر وسيطا من بلاد العرب. لقد استسلم الجميع او تحولوا فرقاء يتحدثون لغة المتقاتلين وخطابهم.
دولة واحدة من دول العرب والعالم تحدثت لغة القلب والعقل والتسامح والمحبة والوحدة الوطنية. ودولة واحدة كان فريقها الوحيد هو لبنان، بكل طوائفه وفئاته واراضيه. ودولة واحدة دعت إليها جميع المتقاتلين والمتخاصمين والمتحاورين والمتلاقين، دولة واحدة رفعت شعارا وحيدا. سلامة لبنان وسلامة اهله وسلامة هذا العالم العربي الذي لا يكف عن الانزلاق.
في ذروة الأزمة اللبنانية على ما فيها من ذر وذروات، اعلن الملك عبد الله بن عبد العزيز رفع مرتبة سفيره الدكتور عبد العزيز الخوجة الى سفير فوق العادة. فإذا تعذر على بعض زعماء لبنان المجيء الى الرياض حمل اليهم الدكتور الخوجة رسالة الملك بتفويض استثنائي. وكان هناك رجل لا ينام في بيروت، هو عبد العزيز الخوجة، وكان في الليل والنهار يحمل ابتسامته المطبوعة الى مقرات الوجوم والرفض. ولم يكن ييأس وكنت اتصل بهذا الصديق الغارق في هم لبناني لاعرف منه أين نحن؟ وكان يجيب باستمرار laquo;انا متعب، لكنني لن أيأسraquo;.
وكنت في داخلي أعرف انه يكابر بابتسامته وشاعريته ودماثته أمام الابواب المغلقة ويافطات الحقد المرفوعة. غير انني كمواطن، كنت اضع كل آمالي في رجلين تحركا في اتجاه الوئام: نبيه بري وعبد العزيز الخوجة، وعندما انكفأ الرئيس بري وأغلق بابه وأعلن يأسه اتصلت بالسفير الشاعر كما افعل في غالب الايام، لسؤال عام أو للود الشخصي القائم، وحاولت ان اعرف منه شيئا، وكرر انه لا يزال يأمل بأن يمنَّ الله على الفرقاء بالتعقل.
المأساة انها اللغة التي لا يريدها كثيرون. لقد اصبح الاعتدال في العالم العربي تهمة لأن لغة الموت والخراب هي البطولة. وما يجري في العراق هو مقاومة. والانقسام المريع في فلسطين في ظل الاحتلال الاسرائيلي هو الحل المنشود وكلما خسرنا كتيبة جديدة من الاطفال والنساء في العراق وفلسطين، اقترب النصر. وكلما تمزقت الالفة والوحدة والمصير والنفوس في لبنان والعراق وفلسطين، توطدت الوحدة الوطنية.
اذا كانت هذه هي الوحدة الوطنية فكيف يكون الانقسام والانشقاق والخراب وانهيار الامم؟ دولة واحدة عملت حقا من اجل وحدة لبنان. استضافت الشيعة قبل السنة. وسفير الملك عبد الله كان يقوم بزيارات شبه يومية مع السيد حسن نصر الله، وعاصمة عربية واحدة وقفت على مسافة واحدة من جميع اللبنانيين، عن قرب لا عن بعد عن صدق، لا عن ادعاء. لكن ضجيج الخراب يعلو على صوت العقل ويتجاوز نداء القلب.
العنوان الأصلي للمقال : لا غير
التعليقات